مدن الصيف: «هل جئت من القارة؟»

TT

يحيلنا بعض الكتّاب على ابن الأثير أو شكسبير أو هجاءات جرير، ويحيلنا البعض الآخر على ما كتبوا لنا: «كنا أول من نبَّه إلى أن الشمس تشرق من الشرق».. «بتاريخ كذا كتبنا في هذا المكان»، وفي اليوم التالي بتاريخ كذا. الحمد لله؛ لا سباقات ولا أسبقيات صحافية في حياتي، لكن كان يحلو لي أن أقول كلما جيء بذكر آيرلندا إنني ربما كنت أول صحافي عربي يذهب إلى هناك؛ ليس بسبب مهارتي، ولكن لأن آيرلندا عام 1969 لم تكن في درب أحد.. آخر بلد في أوروبا قبل أن تبدأ الاتجاه فوق الأطلسي نحو «العالم الجديد» الذي هاجر إليه الآيرلنديون في مجاعاتهم الكبرى، حاملين فقرهم وحربهم ضد بريطانيا التي لم ترَ في بلدهم سوى مستعمرة جاهلة أخرى تستحق التطويع. فاجأني جمال الجزيرة التي وصلت إليها على ناقلة بحرية عتيقة تحت رذاذ الصباح.. كانت الناقلة البريطانية مليئة بالعائدين الآيرلنديين، الذين ظلوا يرددون الأغاني الفلكلورية حتى غلب النعاس الجميع إلا البحر والقبطان. دخلت دبلن يخامرني شعور بأنني في قارة لا أعرفها وليس في بلد لا أعرفه.. مدينة صغيرة كل تاريخها بؤس ونضال وهزائم وأغان وطنية حزينة.

جئت إلى آيرلندا خلف شارل ديغول، الذي اختار المنفى المؤقت بعيدا عن فرنسا لكي لا يتهم بالتدخل في انتخاباتها. كان هناك نحو 200 صحافي طاردوه في قرية «سنيم» الصغيرة، الغارقة في العشب والرذاذ مثل بقية الجزيرة.. وكنت بينهم، ربما الوحيد غير الأوروبي، ممثلا صحيفة غير أوروبية.

لم ينقطع الرذاذ.. على نافذة الفندق.. على نافذة القطار.. على نافذة السيارة. سألت: هل من مطعم لبناني؟ قيل: واحد في أطراف المدينة، فقصدته، فلما استقبلني صاحبه قال إنه قبرصي وليس لبنانيا، لكنه استغل الشهرة اللبنانية.. وكان ودودا مؤدبا فمنحته الحق الفوري في النسبية. كانت دبلن مدينة رخيصة بدرجة لا تصدق، وهانئة هادئة، وجميلة حتى كتبت إلى خطيبتي يومها وزوجتي بعد أشهر، أن علينا الهجرة إلى هنا؛ مدينة بلا صراع ولا قلق، وأهلها مودات مودات.

كانت آيرلندا معزولة لا يقصدها الكثيرون.. وكلما تحدثت إلى أحد يسألني بفضول: «هل أنت قادم من القارة؟».. فقد كان شعري أسود وشعر الآيرلنديين أحمر أو أشقر في أفضل الحالات، وكل من ليس كذلك فهو من القارة؛ من أوروبا. لم أعرف شعبا متوددا مثل الآيرلنديين في ذلك الوقت، ولم تكن هناك جاليات أكثر عنفا منهم في بريطانيا وأميركا.. وهؤلاء الذين سافروا إلى الولايات المتحدة هربا من المجاعات، أعطوها أشهر رؤسائها؛ كيندي وريغان وكلينتون، وأعطوا اللغة الإنجليزية التي يكرهون أهلها، بعض أهم كتَّابها وشعرائها؛ جورج برنارد شو، وصامويل بيكيت، وجيمس جويس، وعشرات آخرين. ودخل كتاب «رجال من دبلن» لجيمس جويس الأدب الكلاسيكي، فيما اعتبر كتابه «أوليس» عن حياة المدينة «أعظم» كتاب بالإنجليزية بعد شكسبير. تبدو دبلن أوائل القرن الماضي مثل بطرسبرغ الروسية في القرن التاسع عشر؛ «قابلة قانونية» للأدباء والشعراء الذين حولوا أشخاص المدينة وحجارتها إلى ملاحم أدبية مذهبة.. ما من أحدهم انتقد دبلن ولعنها وهزئ بها، وما من أحد مثله أعطاها هالة الأدب. وإذا ذهبت إلى هناك فسوف تشعر أن ثمة حالا جنونية دائمة تلف المدينة: الجميع يتحدثون عن أشخاص جويس وكأنهم في الشارع المجاور. إلى اللقاء.