أعمى الألوان لا يميز الخط الأحمر

TT

استخدام أسلحة الدمار الشامل الكيميائية (الكيماوية) أو البيولوجية أو النووية يكون بدافع أحد أمرين؛ إما بغرض تجربتها لتقييم فعاليتها وحدود تأثيرها، أو رغبة في حسم سريع لمعركة مرهقة.

وكلما تطورت وسائل استخدام هذه الأسلحة زادت قيمتها العسكرية، فمثلا كان استخدام الأسلحة البيولوجية إجراء متبادلا بين أطراف الحرب العالمية الأولى، طرف يلقي جوا فئران مصابة بالطاعون على المدن، والطرف الآخر يرد بتلويث مصادر المياه بالبكتيريا. اليوم لو استخدم هذا السلاح لن يكلف كل هذا العناء، فكبسولة صغيرة بحجم نصف الإصبع مليئة بمئات الملايين من الفيروسات أو البكتيريا يمكن رشها على مساحات واسعة لإحداث إصابات قاتلة خلال ساعات، أضف إلى ذلك أن السلالات البيولوجية المستخدمة في السلاح البيولوجي حاليا أكثر ضراوة بمراحل من المستخدمة آنذاك.

التفجير التجريبي غالبا ما يكون في الغلاف الجوي أو تحت الماء أو تحت الأرض، وكل الدول التي تمتلك اليوم هذه الأسلحة مرت بالفترة التجريبية التي لم تعد ذات أهمية بعد أن أسست هذه الدول نماذجها العلمية لتصنيع هذا النوع من السلاح.

أما الدافع الثاني، وهو استخدام السلاح المدمر لحسم معركة طويلة، لاختصار الزمن وتكلفة الحرب، فهو سبب استخدام وتصنيع هذه الأسلحة. الولايات المتحدة الأميركية فاجأت اليابان خلال الحرب العالمية الثانية بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي لتجبرهما على الاستسلام، وبعدها بأيام استسلمت اليابان وطويت صفحة الحرب. أيضا استخدم صدام حسين غاز الأعصاب لاسترداد شبه جزيرة الفاو من الإيرانيين في حرب الخليج الأولى، وبعدها بأيام رش غاز الخردل على مدينة حلبجة شمال العراق التي يسكنها الكرد بحجة وجود الإيرانيين فيها، وكان الغرض من هذه الخطوة الجريئة ارتكاب إبادة جماعية وترويع يؤدي إلى اختزال أمد الحرب، وبالفعل، فإن الحرب التي امتدت لثماني سنوات انتهت بعد هذه الحادثة بشهور قليلة.

هل هذا يعني أن استخدام بشار الأسد للسلاح الكيماوي على الغوطة الشرقية هو إيذان بنهاية المعركة؟ لا أدري، لكنه أمر جدير بالتفكير.

إذا نظرنا إلى خارطة النزاع السوري عن بعد، نرى أن النظام السوري يستنفد قوته تدريجيا، حيث اعتمد في البداية على الجيش في ترويع الناس وقنص المتظاهرين، لكنه سرعان ما استعان بالسلاح الروسي بمرور الوقت لشعوره بأن خصمه عازم على إسقاطه. بعدها قام باستيراد أفراد الحرس الثوري الإيراني حينما ازدادت الانشقاقات في جيشه وفقد الثقة بهم، وخلال الأشهر الماضية رمى حزب الله اللبناني بثقله في الحرب الأهلية السورية، في البداية كان سرا ثم أعلن التزامه بنصرة النظام صراحة بعد أن افتضح أمره بسبب المشاركة الواسعة. كل هذا ولا تزال المعارضة السورية صلبة، يدعمها لوجيستيا تكتل إقليمي عربي ذو نفوذ.

المعركة ستدخل سنتها الثالثة قريبا، والحسم غير ملحوظ، وبخلاف الجيش الحر الذي يملك القوة البشرية وينتظر المزيد من السلاح، فإن الطرف الآخر يعمل بأقصى طاقته التي بدأت في الاستنزاف.

المرجح أن السلاح الكيماوي جرى استخدامه من قبل النظام السوري بكميات قليلة وفي ضربات صغيرة خلال السنتين الماضيتين، وكانت ضربات ناجحة، ولكن تأجل استخدامه أو التوسع فيه بعد أن انتفض الغرب خاصة الولايات المتحدة بالإعلان أن أسلحة الدمار الشامل هي خط أحمر. ثم بدا أن مجزرة الغوطة جاءت لتختبر موقف الرأي العام الدولي وجدية غضب الغرب في حال استخدام الغازات السامة على نطاق واسع، والذين بكل أسف فشلوا في اتخاذ موقف صارم ضد هذه الفظاعات الإنسانية.

سكوت العالم على مجزرة الغوطة هو تصريح للنظام السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية في مواقع أخرى وبجرعات أعلى، خاصة في الأرياف حول المدن الرئيسة ومنها العاصمة. العالم الذي يقف متفرجا على طفل يرتعش كالعصفور المبلل بسبب تسرب الغاز السام إلى رئتيه سيكون مسؤولا عن فوضى استخدام أسلحة الدمار الشامل من قبل أنظمة حاكمة مجنونة أو عصابات إرهابية انتحارية. كما لا يمكن قبول الذريعة الأميركية بأنهم غير متأكدين من حصول هجوم كيماوي فعلا من قبل النظام، ولنتذكر أن الطائرات الإسرائيلية دخلت موقع «الكبر» السوري في غفلة من العالم وجمعت عينة من التربة لتختبر سلامة المنطقة من الصناعة النووية، فكيف للولايات المتحدة التي غزت العراق وهي تدعي بمفردها وجود سلاح مجرم دوليا في يد صدام حسين، أن تفقد أجهزتها الاستخباراتية القدرة على فهم ما يدور فعليا على الأرض السورية المنفلتة من الرقابة الحكومية؟ عدا عن أن عدم سماح النظام السوري لمفتشي الأمم المتحدة بفحص منطقة الغوطة هو دليل مباشر على أنه الفاعل.

ذرائع الأميركيين هراء يطلقه المترددون وأصحاب المواقف المزدوجة، أو المصابون بعمى ألوان لا يمكنهم تمييز اللون الأحمر.

الحقيقة أنه خلال العقد الماضي والعقد الحالي يعيش العالم أزمة أخلاقية على مستوى النظام الدولي الذي يحكم الدول وعلاقاتها، فكل التناقضات في المواقف التي ارتكبتها الدول الكبرى في أزمات مختلفة أرخت حبل الالتزام الأخلاقي لدى الدول الأخرى، ولا يوجد موقف أو قانون دولي نافذ يرعى الحقوق ويضبط السلوك ويجرم الاعتداء ويفرض العقوبة على المخالف، بل بتنا نعيش في عالم أشبه بحارة شعبية متخلفة يحكمها الأكثر بطشا.