حتى آخر نفس!!

TT

قبل أن يغادر الكاتب والناقد الكبير د. رفيق الصبان 83 عاما شاطئ الحياة بدقائق قليلة، وهو في العناية المركزة، طلب من زوجته السيدة ليلى أن تحضر معها من البيت سيناريو «الصمت»، الذي كان يضع له اللمسات الأخيرة، بينما كان في نفس التوقيت يكتب مقالا نقديا ليسلمه في موعده للجريدة.

وكأن الفنان يقاوم الموت بالإبداع. في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي شاهدت في مهرجان أبوظبي السينمائي فيلم «جيبو والظل»، للمخرج البرتغالي مانويل أوليفييرا (105 أعوام) أكبر مخرجي العالم عمرا، وقبلها بثلاثة أعوام فقط كنت أشاهد فيلمه قبل الأخير «حالة أنجليكا العجيبة» في مهرجان «كان». ومانويل لا يزال حتى هذه اللحظة يتنفس سينما.

هل هناك عمر افتراضي للموهبة؟ تزهر، تنضج، تذبل ثم تموت، ولو كان الإنسان على قيد الحياة. في الحقيقة تتدخل عوامل كثيرة في زيادة مساحات زمن العطاء أو في تقليصه، إلا أن قانون الطبيعة له دائما قوة، وعلى الرغم من ذلك، فإن التحايل عليه ممكن والاستثناء أيضا ممكن.

كان الراحل الفنان التشكيلي صلاح طاهر (96 عاما) يذهب يوميا من مسكنه بحي الجيزة إلى مرسمه بالزمالك، وظلت لديه دائما ومضاته التي لا تخبو. الموسيقار محمد عبد الوهاب (91 عاما) لم يفارقه العود، ولم يمنعه حتى المرض الذي أقعده عن الحركة، ولم يتوقف عن ملاحقة الإلهام، وقبل رحيله بأسابيع كانت نجاة تغني من تلحينه ومن شعر نزار قباني «أسألك الرحيلا»، وبالمناسبة الكثير من قصائد نزار الأخيرة كتبها على ظهر ورقة روشتة الدواء. نجيب محفوظ (95 عاما) عجز أن يمسك بالقلم، وضعف النظر والسمع، إلا أنه ظل متمتعا بخفة ظله وقفشاته، واستجار بالأحلام فأحالها إلى إبداع، أمينة رزق (88 عاما)، وهي في المستشفى طلبت من المخرج، حتى لا يتعطل التصوير، أن يتم تعديل السيناريو لتؤدي دور مريضة في المستشفى. محمود المليجي (80 عاما) رحل أثناء تصويره لقطة في فيلم «أيوب» مع عمر الشريف.

استمرار الفنان مرتبط بقدرته على التجدد، وأن يظل مستقبلا لكل نبض مختلف، أو تغير في السلوك الاجتماعي أو الذوق الفني. ليس معنى ذلك أن يفقد شخصيته وهو يطارد الإيقاع الجديد، لكن عليه أن يدرك أن للزمن قانونا، وهو ما يعني أن النغمة التي يتوحد عليها الناس دائمة التغيير. النغمة ليست فقط في الموسيقى، ولكن في أداء الممثل نغمة، في اختيار الكلمة نغمة، في أسلوب الإخراج نغمة، فهو يطل بعيون يقظة على كل ما تقدمه الساحة من إبداع.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الزمن بقدر ما يمنح الفنان عمقا وخبرة، فإنه قد يؤثر سلبا على السخونة والتدفق. آخر فيلمين قدمهما المخرج صلاح أبو سيف «المواطن مصري» و«السيد كاف» في مطلع التسعينات، قبل رحيله بسنوات قليلة، لن تجد فيهما هذا السحر السينمائي الذي كنت تشاهده وتشعر به في أفلامه التي قدمها في الخمسينات وحتى منتصف الثمانينات، مثل «شباب امرأة»، «القاهرة 30»، «الفتوة»، «بداية ونهاية»، «السقا مات».

آخر أغنيات أحمد رامي (90 عاما) لأم كلثوم؛ «يا مسهرني»، لا تستطيع أن تصمد طويلا أمام أشعاره الغنائية التي رددتها له أم كلثوم قبلها، مثل «رق الحبيب»، «يا ظالمني»، «هجرتك». صوت أم كلثوم تأثر سلبا منذ نهاية الستينات، وتحديدا بعد «الأطلال». كانت هذه القصيدة التي رددتها عام 1966 هي أعلى قمة غنائية وصلت إليها مع الموسيقار رياض السنباطي، والتي اعتبرت في كل المراجع قصيدة القرن العشرين. وكان السنباطي يرى أن عليهما، هو وأم كلثوم، أن يعلنا بعدها اعتزالهما، لكن لا أم كلثوم فعلتها، ولا السنباطي، فلقد ظلا في الساحة وحتى آخر نفس.