50 عاما من التحرر!

TT

من التناقضات المثيرة أن تمر هذه الأيام الذكرى الـ50 لما يمكن أن يكون الخطاب الأشهر والأكثر أهمية في العصر الحالي، وأعني خطاب زعيم الحقوق المدنية القس الأميركي من أصول أفريقية مارتن لوثر كينغ، والذي أطلقه في ساحة كبرى بالعاصمة الأميركية واشنطن دي سي اكتظت بمئات الآلاف من الحضور وعرف باسم خطاب «أنا لديّ حلم»، وكان الخطاب الذي ألهم الناس والقادة في الاستمرار في مسيرة منح الحقوق والحريات للأقليات الملونة في الولايات المتحدة، والتناقض أن هذه الذكرى تحل على أميركا ورئيسها الحاكم هو باراك أوباما، أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، وهو إنجاز يلي إنجازات سياسية لافتة لهذه الفئة من السكان في أميركا وصل منهم أشخاص عديدون لمجلس الشيوخ ورئاسة شركات كبرى ورئاسة أركان الجيش ورئاسة كبرى الجمعيات وكبرى الأندية الرياضية وحتى وزيرة للخارجية أيضا، كذلك الأمر بالنسبة لمجالات الرياضة والأدب والفنون بشتى أنواعها، وبرامج الحوار في وسائل الإعلام جميعها شهدت وعرفت تألقا غير عادي لهم فيها. ولكن مع كل ذلك هناك معايير وإحصائيات لافتة جدا ولا يمكن إغفالها ولا الإقلال من شأنها تؤكد وبقوة استمرار وجود فجوة مهولة (اقتصادية تحديدا) بين الأميركيين من أصول أفريقية وسائر المجتمع، وأن الفقر والجهل والتفكك الأسري ونسب الجريمة لا تزال من نصيبهم بشكل كبير. ويرجع علماء الاجتماع ذلك لوجود قصور كبير في خطط الدولة «لانصهار» الجميع في التنمية. وتمعنت في ذلك المعنى طويلا وقلت في نفسي إذا كانت أميركا بقوتها وعظمتها وهي التي ألهمت العالم بأسره بخطاب مارتن لوثر كينغ الشهير (وهو الذي اعترف بتأثره الشديد بالزعيم الهندي الكبير غاندي) وأنجزت ما أنجزته من خلخلة مهولة للأمراض العنصرية البغيضة بسن القوانين الجريئة التي تجبر الشركات والمؤسسات وحتى ملاك البيوت المعروضة للبيع والإيجار على ضرورة منح جميع المواطنين (من أغلبية وأقليات) نفس الفرصة والحق بكل عدل وحرية وإلا كان العقاب القانوني الشديد بحق كل من يخالف ذلك.. إذا كان بعد كل ذلك لا تزال تعتقد أن لديها «قصورا هائلا» يجب معالجته فما عسى أن تقول المجتمعات الأخرى عن العنصرية المتوحشة في داخلها (وهي التي تنكر وجود المشكلة أصلا!) ولكنها مجتمعات هشة تقسم أبناءها بشكل فج ومقزز. مجتمعات لا تعترف بوجود المشكلة وتنكرها حتى تحولت مؤسسات المجتمع فيها إلى ما يشبه مواقف السيارات؛ كل يجمع فيه «بني جلدته» حتى أصبحت مرتعا للمحاسيب والأنصار وبالتالي أداة ممكنة للفساد والإفساد بكل جهل وسوء إدارة.

العنصرية مرض خبيث وعضال، وعدم التصدي له بجدية وواقعية سيؤدي إلى كوارث اجتماعية هدامة، وهي مسألة أدركها صانع القرار الأميركي جيدا، ويحاول ملاحقة أضرارها مجددا لأنه الآن سيواجه نفس التحدي والخطر مع الجالية الكبرى المتنامية من أصول لاتينية والتي باتت اليوم أسرع الجاليات نموا في الولايات المتحدة ولها وجود هائل في أهم الولايات مثل فلوريدا وتكساس وكاليفورنيا ونيويورك.

50 عاما مضت على خطاب ملهم وأخاذ، ولكن هناك إلهاما للعالم لم يصل بعد، وليس الأمر يقتصر على إيقاف الصيحات العنصرية في ملاعب كرة القدم ولكن تجريم العمل العنصري بشتى أشكاله، فوقتها تكون المجتمعات على حق وعلى دين!