مدن الصيف: واها أنفاري

TT

عندما تدمن السفر تكتشف أن متعة الجديد ليست في مدن الأسماء والصيت. فعندما تصل إلى مدينة كبرى تشعر بأنك تعرفها من قبل، وأن كل شيء متوقع. الاكتشاف الحقيقي في الأمكنة النائية عن عادات السفر: في ادنبره لا في لندن. في دوبروفنيك لا في بلغراد أو زغرب. في بافالو لا في مانهاتن.

لا يمكن للصحافي أن يسافر سائحا حتى لو كان بلا مهمة. كل شيء يراه يضاف إلى مخزون له موعد كتابة ذات يوم. كل ملاحظة موضوع. كل مقام مقال. السياحة راحة واسترواح ورمي هموم، أما سفر الصحافي فمجرد يوم آخر أو فصل آخر لمجموعة كتب أخرى. لي كتاب عنوانه «ناس ومدن»، وكان الأحرى أن يكون عنوانه «حياة بين الناس وفي المدن». وأيضا في القرى، وفي الأماكن. ودائما لسبب واحد: النص أو السرد.

أشعر الآن بندم عميق لأنني لم تكن لدي شجاعة السفر في مدن الفقر حيث الحياة والبشر على عرائهم. نفرتني مومباي من حدة الفقر وعويله وذله في الستينات فلم أعد أسافر إلى الهند. وهدَّتني أشكال الفقر في جاكرتا فلم أعد أخرج من بهو الفندق إلا إلى حديقته.

لهؤلاء الناس الذين تحت مستوى الفقر اسم بارد ومرعب في إثيوبيا «واها أنفاري»، وترجمته التقريبية «الذين لا يأكلون سوى الطعام المسلوق». أخبرتني سيدة لبنانية بأنه خلال الحرب الأهلية لكي تطعم أطفالها كانت تسلق الزبد في المياه وذاك هو الإدام. واها أنفاري، الحمد لله.

لن تعرف الدنيا والبشر في الصالونات. الجمل المركبة لا تعبر عن الحقائق. حرصت أن أمشي في شوارع الدار البيضاء لأرى كيف تمضي يوميات المغاربة. وكذلك في فاس حيث تعلمت للمرة الأولى تلك الجملة الرفيعة «شرفتني بمعرفتك». والطرابيش والقناطر وبائعو البهارات كأنك في عالم غابر، أو كأنك في سوق حلب. وماذا بقي من شهباء مترامية كان اسمها حلب؟ الحلبي طباخ ماهر وصاحب ذوق وصاحب قدود وصاحب كيف، ومدينته الآن أحزان. تعرفنا يومها إلى مفتيها، الشيخ أحمد حسون، وكان رجلا سعيدا. ثم صار مفتي الديار السورية وجميعها حزينة، إلا الرجل المبتهج بالنصر.

نهضت دولة مثل إسبانيا من كساد طويل بفعل السياحة. باعت الأوروبيين الشمس والغناء والسمك بالأرز. وتعتبر فرنسا الدولة السياحية الثانية بعد أميركا، وما من سائح في مصر والعراق وسوريا ولبنان حيث تتكدس آثار التاريخ الأول. من هو العربي الذي كان يجرؤ على السفر إلى العراق أو سوريا؟ ضمن الأردن دخلا سياحيا منظما وهو لا يملك سوى معلمين عظيمين: بترا والبحر الميت. وروى الملك حسين في بعض ذكرياته أن رونالد ريغان كان يقول له دائما إن أمنيته هي «صيد السمك في البحر الميت». وأحجم الملك بأدبه عن التصحيح بأن البحر سمي ميتا لأنه لا حياة فيه.

سافرت مرة واحدة إلى عمان. كان ذلك عام 1965، وهي مدينة صغيرة على تلال. وكان يومها الحسن بن طلال عائدا من أكسفورد، فدعينا إلى حفل تكريمي له أبرز ما فيه الدبكة والمنسف.. بعيدا عن تقشف أكسفورد. إلى اللقاء.