ثمرة الربيع: عناق المتطرف الديني بالمؤدلج السياسي!

TT

هناك تحالفات هشة متجددة بنيت على أنقاض «الربيع العربي»، يجمع فيما بينها البكاء على انهيار تجربة الربيع بما حملته من آمال عريضة وتصورات فانتازية عن عالم عربي وشرق أوسط جديد، السياسي المؤدلج غير راض على ما آلت إليه الأوضاع، ولديه أزمة حقيقية مع دول الاستقرار تعود إلى رغبته في ابتزاز أنظمتها السياسية عبر المطالبة المبتسرة بالإصلاحات السياسية ولو بدفع أثمان باهظة، كالتحالف مع التطرف وآيديولوجيا العنف، كان ذلك سابقا مع تبرير عنف «القاعدة» في التسعينات باعتبار أن مكونه الرئيسي وسببه الجوهري هو غياب الإصلاحات فيما تبين لاحقا أنه أشبه بالمزحة السامجة (تشبه هذه المزحة تصريح أردوغان أن إسرائيل والغرب وراء سقوط مرسي).

الآيديولوجي المتطرف أيضا يتحالف مع الخطابات السياسية الابتزازية هذه الأيام بعد أن كان يكفرها سابقا ويصب عليها جام غضبه وإرهابه لمجرد رأي سياسي حول نقده للعنف الديني أو التطرف أو الإرهاب، لكنه اليوم يحاول أن يتترس بعقله العنفي خلف مصطلحات ليبرالية الصنع والمنشأ لكن بمضامين أصولية، تتحول الديمقراطية إلى حكم شمولي، ويتم تصوير الإرهاب والترويع والعنف على أنها معارضة واعتصام سلمي، لكن هذه الازدواجية لا يمكن أن تصمد أمام الأتباع، لذلك يتم إنتاج خطابين؛ الأول للغرب والشخصيات المتحالفة من خارج الإسلام السياسي والإعلام يتحدث بلغة سياسية مصلحية، ويتم إنتاج خطاب آخر للأتباع والكوادر وباقي المجموعات المتطرفة مصاغ بلغة دينية وثوقية حادة تضع الآخرين في قوالب الجاهلية وتستخدم كل إمكاناتها في تنزيل النصوص الدينية الواردة في سياق الكفار والمنافقين ليعممها على خصومه السياسيين الذين ربما كانوا أكثر تدينا وفهما لها منه، لكنهم في النهاية، بعيدا عن ذلك، مساوون له تماما في المواطنة وحق تقرير المصير.

وكما أخطأ السياسي المضاد للأنظمة فهمه لطبيعة العنف الذي تولد منذ بداية السبعينات بسبب انفراجة الأوضاع فيما يخص الإسلام السياسي التي قادها باقتدار الرئيس أنور السادات وساهم في ذلك ردة الفعل تجاه فترة قمع عبد الناصر، منذ ذلك الوقت أطلق سراح قيادات «الإخوان»، وتم الانفتاح على الغرب وأقرت أنظمة التعدد الحزبي، ولاحقا عشنا في الثمانينات مرحلة الصحوة التي ألقت بظلالها على طبيعة الأنظمة السياسية وتبنيها لخطابات موازية تستجلب الشرعية الدينية قبل السياسية، ومن هنا تضخم العامل الديني في الحياة السياسية وولدت معه مكونات لخطاب عنفي انقلابي يسعى إلى تحقيق حلم الخلافة، وظل حتى لحظة الربيع يتخذ أشكالا وأنماطا مختلفة، لكن الهدف والمضمون واحد، استبدلت الحاكمية والشورى بإرادة الشعب والصندوق، واستبدل التحالف مع الأنظمة العربية التي تحالفت مع الإسلاميين إبان الحقبة الناصرية بالتحالف مباشرة مع «الشيطان الأكبر» الغرب وإسرائيل لكن في حدود إشكالات العلاقة مع «حماس» وليس المقاومة المفهوم الأشمل.

السياسي الثائر والمستلب من الإسلام السياسي بات يتحدث عن الديمقراطية بشكل مجتزأ ومبتسر ومنقوص، معتمدا على لعبة الأرقام وحصر مفهوم الديمقراطية في الانتخاب بين لا حديث عن الفصل بين السلطات ولا حديث عن ضمان الحريات السياسية الفكر والفن والحرية الدينية ووجود أحزاب معارضة والهوية الوطنية المشتركة.. إلخ

السياسي في هذا الابتسار والتحالف بمنطق السياسة يحول جماعات الإسلام السياسي، ومنها «الإخوان» بتجربتها الفاشلة، إلى طائفة أو أقلية دينية مضطهدة، وهي جزء من أزمة فهم الغرب والولايات المتحدة لطبيعة الإسلام السياسي والفرق الكبير بينه وبين الأقليات الدينية، حيث لا يختلف في المعتقد الديني، وإنما في الأهداف السياسية والطموح للحكم وآلية التغيير الاجتماعي، وهي تمظهرات سياسية - اجتماعية وليست عقائدية، كما أن طرحها بهذا السياق الطائفي الأقلوي هو معادل آخر لطريقة تكفير هذه الجماعات المتطرفة للمجتمع المسلم ووصفه بالجاهلي، وإلا فكيف يمكن للسياسي المتحالف مع «الإخوان» أن يتجاهل مكونات أكثر عراقة وتجذرا في المجتمعات الإسلامية كالإسلام الرسمي ويمثله الأزهر في مصر والتيارات السلفية الحاضرة اجتماعيا بشكل أقوى، بل المهيمنة، كظاهرة معولمة لها تجلياتها المختلفة، فنحن أمام سلفيات متباينة لكن بإطار ومرجعية فكرية متقاربة، هذا عدا أن أغلب المجتمعات الإسلامية، وعلى رأسها المجتمع المصري، هي مجتمعات متدينة ومتسامحة إجمالا لم تطرأ عليها تحولات نوعية وضخمة كالتي طرأت على مجتمعات أوروبية أو حتى آسيوية فيما يخص العامل الديني.

الإسلام السياسي الحركي يعبر عن موجات اجتماعية وليس مجرد أحزاب وتنظيمات سياسية، هناك فرق كبير من جهة مصادر التلقي والانتشار والتعبئة، لذلك التحولات بحاجة إلى خطابات بديلة على مستوى الفكر والعقل وليس فقط على مستوى الخيار السياسي، فكما لم تتحول جماعات الإسلام السياسي أو حتى بعض الجماعات المنشقة عنها ممن كانت لها سابقة العنف، كالجماعة الإسلامية والجهاد، إلى خيار المشاركة السياسية بمجرد قرار قيادي، فلا يمكن أن تعود إلى مربع السلم الأهلي بمجرد قرار أو انقلاب داخل الجماعة، هناك حاجة لوقت طويل للمراجعة والتفكير والخروج من كل أطر ما قبل الدولة الحديثة، ومنها مفردات الخلافة والشمولية والأممية.

هناك عناق حميم الآن بين المتطرف الديني والمؤدلج السياسي بشعارات الخوف من عودة حكم العسكر والأنظمة القمعية وتراجع الحريات السياسية، في حين أن كل هذه المخاوف تبدو أكبر في ظل الحكم الشمولي للإسلام السياسي لسبب بسيط هو عواقب تسييس الدين أكثر خطرا وفداحة من تحييد العامل الديني في الصراع السياسي، وللحديث بقية.

[email protected]