التتار الجدد

TT

عندما كنت أشرح لتلاميذي الفرق بين التاريخ والتراث كنت أقول، إن التاريخ هو ما وقع بالماضي وكان له أثر مادي أو معنوي في حياة البشر، سواء بالسلب أو الإيجاب، أما التراث فهو ما بقي من هذا الماضي، وبالتالي فإن ما بقي من الماضي هو كل صلتنا المادية به، والحفاظ على التراث هو حفاظ على الصلة بالماضي، وبالتالي على الجذور والهوية، ويكون العكس صحيحا، فضياع التراث هو قطع للصلة المادية بالماضي، وبالتالي طمس للهوية.

هل تفسر لنا هذه المقدمة ما يحدث في مصر بواسطة التتار الجدد من نهب وحرق للمتاحف والكنائس والأديرة الأثرية بصعيد مصر، وحرق وهدم المباني التاريخية بالقاهرة، وطمس وتغيير معالم المواقع الأثرية بالإسكندرية والاعتداء عليها ومحاولة نهب مكتبة الإسكندرية؟ بالطبع الأمر واضح ولا يحتاج إلى خطب الخطباء وتفسيرات المفسرين وتحليل المحللين، وهؤلاء جميعا صدعونا بأحاديثهم السطحية الساذجة وظهورهم الدائم الفج على القنوات التلفزيونية.

التتار الجدد يريدون جعل مصر جزءا من كيان كبير تحت اسم إسلامي تحكمه الدولة العثمانية الجديدة، ولتحقيق الهدف لا بد من طمس الهوية المصرية واعتبار تاريخها الضارب في قدم الزمان حضارة عفنة فاجرة الأفضل حرقها ونسيانها؟! ليست أعمال النهب عشوائية، وإنما ممنهجة وتحقق أهداف مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي انكسر على أيدي المصريين، وهي باختصار فصل مصر عن جذورها، وتمييع قضية الانتماء إلى الدولة المصرية عملا بنظرية «طظ في مصر»، الهدف الثاني هو حض المتعصبين من الأقباط على اللجوء إلى العنف، وبالتالي تكون الحرب بين المصريين بعضهم البعض على أساس طائفي ينشغل به كل من الجيش والشرطة فينكسران وينجح التتار الجدد في استعداء العالم على مصر، ويا حبذا لو تدخلوا عسكريا ليعيدوهم إلى سدة الحكم وينفذوا مخططهم بطمس الهوية المصرية. وكانت المفاجأة الحزينة للتتار الجدد وهي أنه لا يوجد على أرضنا أقباط متعصبون، ولكنهم أقباط وطنيون حتى النخاع، لم ينجروا إلى محرقة مصر، وقال البابا تواضروس، ومعه كل الأقباط، إنهم يواجهون نفس العنف الذي يواجهه إخوانهم المسلمون، وإنهم جميعا في خندق واحد وحرب واحدة ضد الإرهاب، ولتذهب الكنائس وتبقى مصر.

المؤسف في الأمر أن المواطن المصري لا يزال أكثر وعيا وفهما وأسرع في التحرك من المسؤولين، لا يمكن تصور أن يظل متحف ملوي منهوبا مفتح الأبواب لمدة ثلاثة أيام متتالية دون أن يذهب إليه مسؤول واحد في وزارة الآثار، وكان أول من ذهب هو المواطن العادي يلملم ما بقي من تراث منهوب ينقله إلى أماكن مؤمنة!! أيحدث هذا في بلد أنشئت به مصلحة الآثار منذ ما يقرب من 150 سنة؟ أيعقل أن يخرج علينا المسؤول عن الآثار بمصر بابتسامة عريضة يتفاخر بأنه وبعد خمسة أيام فقط من نهب المتحف استطاع انتزاع إدانة من اليونيسكو لما حدث بمتحف ملوي؟ أي إدانة وأي يونيسكو يتحدث؟ لقد نهب متحف من أهم المتاحف المصرية ولم يكلف المسؤولون عن الآثار أنفسهم حتى عناء عقد مؤتمر عالمي ليخبر العالم كله بالكارثة ويضعهم محل المسؤولية في الحفاظ على تراثنا ضد تلك الهجمة الشرسة للتتار الجدد.

نحتاج إلى بعض الوقت للكشف عن كل أعمال التخريب والتجريف الممنهج لتراثنا الحضاري الأثري، والذي لا يزال المسؤولون في مصر يصرون على أنهم غير مسؤولين وهم محقون فمن لا يملك الرؤية لا يمكن أن يكون مسؤولا.