خمسون حلم مارتن.. وتخويف الإخوان لكل مختلف

TT

وقفة إكبار استحقها مارتن لوثر كينغ أمس في ذكرى مرور خمسين عاما على صيحته:

(I HAVE A DREAM).

بالتأكيد، ليست العربية بقاصرة عن ترديد الصيحة بأحرفها الجميلة، لكن ثمة عبارات تحفر حضورها في سجلات التاريخ كما ترددت على ألسنة قائليها، ولعلها تفقد شيئا من بريقها، وربما سِحر تأثيرها، وقوة صداها، إذا هي نُقلت إلى لغات أخرى. عبارة مارتن لوثر كينغ تلك هي من ذلك النوع، فما هي مجرد قول لسياسي يعقِّب على خبر آني، سرعان ما يطويه تطور يعقبه. كانت تلك صرخة تبشِّر بحلم إنساني قابل للتحقيق على أرض الواقع، إذ هو حق لبشر خُلقوا متساوين، ولم تكن عبارة عابرة في أسواق بيع الأحلام لمخدوعين سلَّموا مقاديرهم لمن صدقوا وعودهم، وما كان أولئك لها حافظين، عند كل منهم دائما تبرير جاهز للتخلي عما وعد، وخيانة ما عليه عاهد.

كما يعلم الجميع، لم يزعم مارتن لوثر كينغ أنه الزعيم الأوحد، ليس لأحد زعامة من قبله، ولا حتى من بعده. لم يدع للعنف، ولا طالب بما ليس بوسع نفس تحمله، قاد مسيرة المطالبة بتحقيق حلم المساواة من دون إكراه أحد على الالتحاق بها، لم يعد بما لا يستطيع، لم يهدد، لم يتوّعد، لم يتعال عن الواقع، لم ينظر إلى من اتبع خطاه من علٍ، كان ينسجم في الفعل مع القول، وكان التطبيق على قدر التعاليم، رجل من الناس وإليهم، شاء القدر أن يتزعّم من استعبدتهم عنصرية هي في حقيقة الأمر كانت تستعبد من جعلوها سوطا يلهب ظهور الآخرين، لكنها كانت أيضا لهبا يقلق منام المهووسين باختلاف لون البشرة، العاجزين عن إدراك كنه تساوي المخلوقين أمام الخالق، ليس يفرق بينهم جنس، لون، أو عِرق.

تحمل مارتن لوثر كينغ مسؤولية المسير بحلم المسيرة من دون أن يمّن على المظلومين أنه متفضل عليهم بقيادة مسيرتهم نحو العدالة، وبلا إحساس كره موجه نحو من أراد ردهم عن ظلمهم للآخرين، بل بمد اليد إليهم لجسر المسافة بينهم وبين نور المساواة. ألم يحدث أن بعض من بدأوا مقاومين لعنصرية الأبيض ضد الأسود انقلبوا عنصريين أيضا إذ سمح الواحد منهم للكراهية العنصرية أن تتملكه، فإذا به أشد ظلما للأبيض والأسود معا؟ نعم، حصل ذلك وسيحصل، لكن أنموذج مارتن لوثر كينغ، ومنهج نيلسون مانديلا من بعده، يبقيان مثالا ساطعا بحقيقة أن الزمان، وإن أصيب بعقم بين حين وآخر، يظل قادرا عن إنجاب أولئك الآتين من أزمان المصلحين الأنقياء. ولو يئس المظلومون أيام مارتن لوثر كينغ لما أطل عليهم يبشّر بالحلم، ولما قادهم، ومن بعدهم أجيال أصلابهم، إلى أبعد مما توقعوا، فيثبت أن المُحال ليس من محلٍ له في مسيرة الإنسان نحو العدل.

إنها مسيرة تنبئ بذلك، منذ قديم الأزمان، المشكلة في من يتنطعون لمسؤولية قيادة تنوء بحملها الجبال، فيما هم يحملونها لخدمة برامج أحزابهم، حتى لا ندعي عليهم بما لا نعلم عما في نفوسهم. وهنا أجدني أعود لما تضمنته مقالتي المنشورة الخميس الماضي تحت عنوان (ضرورات واقع مصر تسبق حلم الطائرة الورقية) بشأن الانهيار السريع لحكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر. ما أوردته في ذلك السياق كان التالي: «لقد تسلّم الإخوان المسلمون حكم مصر مرورا بصندوق الاقتراع، فماذا حصل؟ علوّا أنفسهم على غيرهم. تعالى زعماؤهم عن إشراك ممثلين لتيارات مغايرة في المجتمع، لعلهم اعتبروا ذلك نوعا من الشِرك، أخذوا بمنهج الإقصاء، زكّوا أنفسهم، كأن لسان حالهم كان يقول: إنهم نخبة النخبة، صفوة الصفوة، فما الداعي لتلبية أي دعوة تخالف دعوتهم. بالطبع، ها هي النتيجة أمامهم وأمام الجمع العربي كله. ربما يقال، لقد حكموا من قبل، وما يزالون، في السودان، غزة، أنقرة، وتونس، فلم الانهيار السريع في مصر؟ ليس بعصي الجواب على كل ملمٍ بأبسط أسس جغرافيا الشرق الأوسط السياسية. مصر غيرُها عن غيرها. الدين، الحاكم، والشعب، مثلث حكمته، منذ آلاف السنين، شروط مختلفة عند المصريين عنها عند غيرهم من شعوب المنطقة وحضاراتها. من العجيب أن عقل جماعة الإخوان أغفل ذلك، فكان ما كان».

انتبهت ليل الثلاثاء أن موقع «الشرق الأوسط» باللغة الإنجليزية نشر ترجمة لمقالتي تلك الأحد الماضي، ولفتني تعليق منشور الساعة الثالثة وتسع وأربعين دقيقة، مساء اليوم ذاته، تضمن التالي:

abu ahmad says: Mr Bakr Oweida، in my opinion you are so naive about islamic principles and idealogy. You seem afraid of something which you yourself do not understand.

ليس لدي أي اعتراض على اعتبار (أبو أحمد) لي أنني ساذج جدا فيما يخص المبادئ، أو القيّم، و(الآيديولوجية) الإسلامية. ذلك رأيه الذي أقدّره كل التقدير، ولعله مصيب برأيه ذلك تماما. لكنني لم أدع تفقها في الدين، ولم أكتب منطلقا من ادعاء التخصص في (آيديولوجية) إسلامية، ولست أدري المقصود بذلك، ليته أوضح، هل يعني آيديولوجية جماعة الإخوان، وأي منها المقصود، فهي منذ المؤسس حسن البنا وحتى المرشد محمد بديع، توزعت آيديولوجيات. اعتراضي على تعليق السيد (أبو أحمد) هو أنه وضع على رأسه قبعة المتخصص فذهب يشخصن الأمر ويشخّص حالتي معتقدا أنني (على ما يبدو خائف من شيء ما أنا نفسي لا أفهمه). جميل، يهمني التأكيد للسيد (أبو أحمد) أنني لست خائفا من شيء لا أفهمه، الإسلام هو ديني الذي أعتنقه بإيمان، وعن اقتناع، وبحب أيضا، ولست مضطرا لأن أضع أي قناع أختفي وراءه، لا أخفي اسمي، على سبيل المثال، تحت «أبو فلان»، ولا أعرف من ماذا عليّ أن أخاف، المشكل سيد (أبو أحمد) هو اعتقاد البعض، ومنهم كثيرون داخل جماعة الإخوان، ولا أقول كلهم، (ولست أفترض أنك أحدهم) أن بإمكانهم تخويف غيرهم بسيوف التفسيق والتكفير. ربما يستطيعون ذلك مع كثيرين من الناس، خصوصا الطيبين منهم ومنهن، لكن ليس مع الكل. عند هذا القدر أكتفي، وإلى جانب الشكر لاهتمامه بالتعقيب، آمل ألا يزعل (أبو أحمد) لأنني لم أخفْ مما شعر أنني أخافه.

[email protected]