وجدة زهرة في خيال

TT

حين لمحتها أول مرة، أدركت أنني لا أعرف كيف جاءت وكيف ضربت بجذورها في الأرض؛ نبتة صغيرة ظننتها عشبة ضارة قد تعوق نمو الأزهار الأخرى. كدت أقتلعها، ثم ترددت وتركتها في مكانها. ولم تمض أيام إلا وكانت كبرت واستقام عودها ولمحت أعلى الساق خمسة براعم تعد بالازدهار. هذا الصباح أينعت إحدى الأزهار، وأعلنت عن نفسها؛ زهرة عباد الشمس تبتسم لي وتحييني بوجهها المستدير وقلبها المفتوح، ولونها الذي يحاكي لون القمر في سماء الليل.

ذكرتني الزهرة بـ«وجدة» بطلة الفيلم السعودي الذي حصد جائزة مهرجان دبي السينمائي. وذكرني خبر الجائزة بلقائي مع هيفاء المنصور، مخرجة الفيلم وكاتبة السيناريو. هيفاء زهرة, والشخصية التي أبدعتها هي الأخرى زهرة محبة للحياة. كلتاهما نجت من الاقتلاع، وكلتاهما تسبح في ضياء شمس الصباح.

مؤخرا عرض الفيلم في لندن ولقي احتفاء غير مسبوق فسارعت لمشاهدته لأني اعتبرت عرض الفيلم في لندن مناسبة للاحتفال، فهو فيلم سعودي صورت مشاهده في المملكة العربية السعودية وقام بالأداء التمثيلي فيه ممثلون وممثلات سعوديون, وشاركت في إنتاجه من الناحية التقنية شركة ألمانية, ورعاه مهرجان «سنسيناتي» للسينما في الولايات المتحدة. فلا شك أن الثقافة العربية، وإقبال المشاهد البريطاني على الاستزادة منها، تختصر المسافة بين الثقافات، وتمهد لفهم أشمل لديناميكيات مجتمعية تضاربت فيها الآراء.

حين بدأ العرض، ذكرتني وجدة بطفولتي قبل نصف قرن وما يزيد. كانت أيام الطفولة محاصرة بالنواهي، بلا أدنى محاولة لذكر الأسباب. غير أن ما يقوله المثل الإنجليزي من أن الشخصية هي جزء من قدر الإنسان انطبق علي كطفلة، كما انطبق على وجدة بطلة الفيلم، التي جسدتها طفلة موهوبة اسمها وعد. تجلى حب وجدة للحياة وإرادتها التي اختزلت كل ما تصبو إليه من حرية التعبير عن الذات في امتلاك دراجة. وحين عبرت عن تلك الرغبة نهرتها أمها، وهددتها بأن والدها قد يذبحها إن سمع بما تريد.. غير أن النهي والترويع لم يفصلاها عن الحلم بالانطلاق فوق الدراجة، توازيا مع عبد الله رفيق الطفولة. فبدأت بتوفير كل «هلله» ليكتمل عندها ثمن الدراجة.

أما الفرق بين وجدة وأمها، فتمثل في انشغال كل منهما بأمل الوصول إلى سعادة منشودة؛ سعادة وجدة بالدراجة، وسعادة الأم ببقاء الزوج وفيا للحب الذي جمعهما. غير أن الزوج لا يأتي إلا مرة كل أسبوع، فتستعد للقائه بالعطر والماكياج والطعام اللذيذ، فيمطرها بالمجاملات، ثم يمضي بعد أن يذكرها بأنها لن تحمل مرة أخرى، لأنها تعرضت لمضاعفات أثناء ولادة وجدة. وعليه، كانت الزوجة تبذل قصارى الجهد المادي والمعنوي لإرضائه، ودأبت على توفير جزء من راتبها لكي تشتري ثوبا أحمر يمكن أن يفتنه حين ترتديه في حفل عرس أخيه.

أما وجدة، فتتعرض لكثير من المتاعب في المدرسة، لأن المديرة تعتبرها متمردة وخارجة عن الأطر المقبولة. وحين تعلن المديرة عن مسابقة لحفظ القرآن وترتيله تتقدم للاشتراك وتعمل بجهد مضاعف للوصول إلى المرتبة الأولى، والحصول على الجائزة المالية التي تمنحها المدرسة للفائزة. وبالفعل تصل إلى المرتبة الأولى. وفي حفل تسليم الجائزة تسألها المديرة عما تعتزم فعله بالمبلغ. وحين تسمع أن وجدة تنوي شراء دراجة، تبدو على وجهها أمارات الاستنكار، وتعلن أن ركوب الدراجات غير مقبول للفتيات، وعليه، فإن وجدة سوف تتبرع بالمبلغ لفلسطين.

وفي مشاهد أخيرة بالغة الدلالة، تصل وجدة إلى البيت باكية وتتهاوى على الأريكة، فيغلبها النعاس وتفيق وقد خيم الظلام على الدنيا. تبحث عن أمها فتجدها في الشرفة وفي خلفية المشهد أصوات احتفال في بيت قريب. فتسأل؛ هل هو الاحتفال بعرس العم؟ فتقول الأم: لا يا وجدة، إنه عرس أبيك. وتسألها عن مسابقة القرآن، فتبكي الصغيرة على الحلم الذي تلاشى. فتقول الأم لوحيدتها: لا تبكي. تعالي معي. وتأخذ بيدها إلى حيث كانت الدراجة التي اشترتها الأم بميزانية الثوب الأحمر، الذي لم تعد فيه راغبة.

قلت إن وجدة ذكّرتني بطفولة محاصرة بالنواهي. وبناء على ذلك، لم أتعلم ركوب الدراجة، وفشلت كل محاولاتي بعد أن كبرت لتعلم السباحة بلا خوف. ولم يفسر لي مخلوق حتى وقتنا هذا لماذا يعتبر ركوب الدراجة مخالفة وتعتبر السباحة من الممنوعات، علما بأنه جاء في الأثر: «علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل». وكلنا يعلم أن لفظة «أولادكم» تعني الأولاد والبنات، كما ورد في القرآن الكريم.