مدن الصيف: بنغازي: الصحافة الأولى

TT

وصلنا إلى بنغازي صيف 1967 وكنا خمسة: جورج حشمة، رئيس تحرير الـ«ديلي ستار»، محمد اليسير من «رويترز»، رفائيل كاليس من كلية الآداب الإنجليزية في الجامعة الأميركية، وحسان والمحبِّر من «النهار». كان في المدينة صحيفة واحدة هي «الحقيقة»، وقد أراد ناشرها محمد الهوني أن يرفقها بأخرى بالإنجليزية هي «ليبيان تايمس» فكان حضورنا. لم يطل بقائي في الـ«تايمس» الليبية فانتقلت إلى «الحقيقة» الصادرة يوميا بأربع صفحات ومعي سوف ترتفع إلى ست ثم تزهو بثمان. وكان ذلك خرقا.

كانت «دار الحقيقة» مؤلفة من مكتب ومطبعة وأصحاب طيبين. أو غاية في الطيبة. كان منزل محمد ملاصقا للمطبعة، وغالبا ما كانت المأدبة عنده والعمل في البهو. جمل صغير تكريما للعاملين القادمين من لبنان. إلى جانب محمد كان شقيقه رشاد، رئيس التحرير.. كاتب بارع وإنسان لامع وللأسف مقل. دامت تجربتي في بنغازي سبعة أو ثمانية أشهر، تلقيت بعدها رسالة مقتضبة من مدير تحرير «النهار» فرنسوا عقل: «(النهار) في حاجة إلى رئيس للقسم الخارجي. إما أن تحضر الآن وإما لا تحضر أبدا».

كانت لحظة مليئة بالمشاعر يوم تركت بنغازي: صداقة رشاد الهوني ورفقة «الإداري» الحاج حديفة، والعم فيتوري، الشغال الأسمر الذي كان يملأ بيتنا الصغير طيبة ورضا وهريسة حرة، خصوصا إذا مر رشاد لغداء كيفما اتفق. «العشاوات» الليبية بألف صحن وفلفل، كانت تعدها في العطلة الأسبوعية زوجته حميدة، وهي مثله كاتبة في قلمها دفق وسحر.

كنت أمضي معظم الوقت في بهو المطبعة، محاولا أن أوزع خبرتي البسيطة في إنتاج الجريدة. وكان المصري عبد الفتاح كبير صفيفة الأحرف سنا، أما كبيرهم عملا فكان المصري عوض. وفي رواية أخرى عوضين. عبثا حاولت إقناع عبد الفتاح بخفض منسوب الأخطاء لأن الحق على الماكينة لا على شح النظر. وعندما تسول لي نفسي الغضب كان عبد الفتاح يرفعني دفعة واحدة إلى رف الباشاوية ثم يرميني أيضا دفعة واحدة إلى طغيان أم كلثوم: أهوه النهارده الخميس يا سعادة الباشا والست حتغني. وانت مالك. زعلان كده ليه!

كان عالما صغيرا وجميلا وطيبا. وكانت بنغازي مدينة صغيرة متناثرة البيوت، صغيرة الدكاكين، كثيرة الترحاب والتحيات العفوية. كان في «الحقيقة» سيارة «فورد» غبراء عتيقة، وكنت أقودها من الدار في حي «البركة» إلى وسط البلد من دون إجازة سوق. فلم يكن ذلك ضروريا. ولا كان يخطر للشرطي الوحيد كلما ألقيت عليه التحية أن وباء المخالفة اللبناني قد وصل إلى البلد. الغرباء الوحيدون هنا كانوا بقايا اليونانيين والطلاينة وبضعة عمال نفط من تكساس، ينتعلون جزم الولاية ويعملون في الصحراء نهارا ثم في الليل يملأون بهو الفندق صخبا ولكنة، وأحيانا لكمة عابرة لفض الخلاف كما في الأفلام.

مدينة متواضعة، متكاتفة، يعرف أهلها بعضهم البعض بالأسماء، ويعرفون أبناء بعضهم البعض، بالسحنات. والحاج حديفة الهوني يلقي التحية على كل من يمر بنا في الطريق: هل تعرفهم جميعا يا حاج؟ لا، ولكن أفضل أن تخطئ في إلقاء السلام من أن تخطئ في حجبه. كان يردد الحاج حديفة وهو يضبط نظارتيه الرخوتين على أنفه.

إلى اللقاء.