مدن الصيف منبر دفاتر النكسة

TT

كانت بنغازي صيف 1967 مدينة موشومة بالحرائق. مخازن كثيرة في الطرقات أحرقت وظلت مهجورة. تلك كانت محلات اليهود الليبيين التي أحرقت بعد هزيمة يونيو (حزيران). وعندما قال جمال عبد الناصر في خطاب النكسة الشهير «انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب»، كان يقصد القواعد الأميركية والبريطانية عند الجارة الليبية. لكن مصر ستدرك بعد قليل أنهم لم يجيئوا من الشرق ولا من الغرب وإنما من خلف ظهر المشير عبد الحكيم عامر. قضي الأمر بانتحار المشير.

شرق ليبيا من غرب مصر. الزيجات من مصر. والفسحات في مصر. والإجازات في مصر. والمانجو مصرية. والعمال من مصر. و«الأهرام» اليوم هي الطبعة الأولى من «أهرام» القاهرة أمس. وعبد الفتاح الذي يجوب بهو المطبعة معذبا بما بقي له من أسنان، متبرما بما فقد من نظر، وما من عزاء إلا ليلة الخميس: «الليلة عيد». أي ليلة الخميس، أي خميس! أحيانا يرفعني عبد الفتاح إلى باشا، أحيانا يخفضني إلى بيه، وعندما يقرر أن يواجه ملاحظاتي على كثرة أخطائه يُنزل بي العقاب: أعمل إيه في الماكينة الزفت بتاعتكو يا أستاذ!

كانت «الحقيقة»، الخالية من المكاتب ومظاهر الوجاهة، ملتقى أهل الفكر والأدب والشعر، يجتمعون تقريبا كل يوم. يتناقشون أو يحملون نتاجهم للنشر في العدد الأسبوعي. وكانت قصيدة نزار قباني «دفاتر النكسة» قد أثارت جدلا في أنحاء العالم العربي، لكن في بنغازي ترافق النقاش مع الرغيف الإيطالي الأبيض. لم يكن الخبز «العربي» قد انتشر بعد. وعندما كان العم فيتوري يذهب إلى الدكان للتبضع، كان يسأل: «خبز عادي أم من هاداكا». وهاداكا، أو ذلك، كان ما ألفناه في لبنان.

كل شيء كان يتم في حماسة. الكتابة في حماسة. الشعر في حماسة. الرد على الهاتف في حماسة: «مينو أنت». لفظ الأسماء العلم بحماسة: رشادُ. فرج. مفتاحُ. واسم مفتاح شائع مثل عثمان في السودان. وكل من ليس اسمه عثمان فهو «قبطي». أو خواجة. ويقال: إنه عندما استولى المقدم جعفر النميري على السلطة تساءل أهل الخرطوم، إن كان الزول جعفر ده من أهل البلد.

لم تكن بنغازي تدرك أنها سوف تقع بعد عام في قبضة الفاتح. كانت تعيش حياة هانئة ما بين الآثار الإيطالية ذات الأعمدة وما بين ذكريات الجنرال غرازياني، الجزار. وكانت قد بدأت تتطلع إلى أبعد من مصر في هذا الجانب من العالم العربي، ناحية المشرق. وأينما ذهبت في الضواحي الرملية كانوا يحذرونك من القنابل التي سقطت في الحرب العالمية الثانية ولم تنفجر بعد. كانت ليبيا ساحة المعركة الكبرى على الطريق إلى قناة السويس، ما بين الحلفاء والألمان.

وإلى اللقاء.