بين ضربة عسكرية وضربة سياسية

TT

يحتار أي متابع متجرد لتهديدات الغرب بشن ضربة تأديبية على مواقع سورية استراتيجية في استخلاص صورة واضحة للأهداف الأميركية والبريطانية الحقيقية منها، وتحديدا عما إذا كانت أبعاد هذه الضربة عسكرية أم سياسية فحسب.

ويصعب على أي متابع لأحداث الساعات القليلة الماضية ألا يلاحظ أن أصداء طبول الحرب التي قرعت في واشنطن ولندن وباريس، عقب اتهام النظام السوري باستعمال السلاح الكيماوي ضد شعبه، تخفت باطراد في العاصمتين الأميركية والبريطانية. وفي غضون ذلك، تتزايد الدعوات إلى انتظار نتائج أعمال فريق التفتيش الدولي وتتنامى المطالبة بضرورة تقيد العواصم الغربية بالآليات الديمقراطية في اتخاذ أي قرار تدخل عسكري وتسرب إلى وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية «شكوك» كبار الخبراء العسكريين عبر ساحلي المحيط الأطلسي في «الجدوى» العملية لأي ضربة عسكرية لسوريا، حتى ولو كانت «محدودة» و«جراحية» كما يجري وصفها حاليا.

عمليا، من أصل الثلاثي الغربي المتوعد بـ«تأديب» نظام الرئيس بشار الأسد لم يبق من دعاة التدخل العسكري الحاسم سوى فرنسا.. علما بأن إمكانات فرنسا العسكرية في المنطقة لا تقارن بإمكانات حليفتيها الأطلسيتين.

التأني الأميركي - البريطاني في اتخاذ قرار توجيه ضربة عسكرية لأهداف سورية، والخفض المتواصل لطابعها وحجمها، لم يفقد الضربة المفترضة عامل المباغتة فحسب، بل أعاد توقعات المراقبين لاحتمالاتها إلى دائرتها الأولى: ضربة أم لا ضربة.. بينما توحي الأنباء التي يستمر تسريبها عن حجم الضربة المفترضة بأنها ستكون «مهذبة» و«مشذبة»، بل و«مفصلة» على مقاس التقاء أميركي - روسي ضمني على ضرورة الحفاظ على النظام السوري.. رغم الخلاف على مصير رأس هذا النظام.

في هذا السياق، تندرج تأكيدات الإدارة الأميركية وحلفائها أن الهدف الأساسي من تدخلها العسكري المحتمل يقتصر على ردع نظام الأسد عن استعمال السلاح الكيماوي من جديد وجعله عبرة لمن يجب أن يعتبر، وليس الانحياز إلى الثوار أو فرض مخطط سياسي يقضي بتغيير النظام.

باختصار، يبدو أن حالة التأني الأميركي تفرضها حسابات واشنطن الدقيقة لضربة عسكرية محدودة لسوريا، في الزمان والمكان، بحيث لا تستتبع تداعيات سياسية قد تطيح بالنظام وتفتح الباب واسعا أمام تسلل الإسلاميين المتشددين إلى السلطة.

مع ذلك، تبقى فرضية الضربة العسكرية مرجحة لأسباب تتجاوز تعامل النظام السوري مع شعبه إلى تجاهل هذا النظام «الخطوط الحمراء» التي حددها علنا الرئيس باراك أوباما، وفي أكثر من مناسبة.

من المعروف عن الرئيس أوباما، سواء من مواقفه السياسية أم من منحاه الشخصي، أنه يفضل أن يكون رئيسا «داخليا» لبلاده، كي لا نقول رئيسا «مسالما»، أكثر من أن يكون رئيسا «خارجيا» أو «مغامرا».

انطلاقا من هذه القناعة بنى معارضته لسياسات الرئيس الأميركي السابق جورج بوش المفرطة في منحاها التدخلي في الخارج. وعلى أساسها اعتبر إنجازي إدارته الرئيسين سحب القوات الأميركية من العراق وإقرار قانون الرعاية الصحية للأميركيين.

ولكن أن يضرب النظام السوري بتحذيراته العلنية عرض الحائط تصرف يحرجه شخصيا «داخل» بلاده، وفي الوقت نفسه يعرض الولايات المتحدة لفقدان هيبتها الدولية.

سمعة الولايات المتحدة في الخارج لم تعد تتحمل اتهاما جديدا بأنها «نمر من ورق». والحفاظ على ماء وجه الدولة والرئيس معا قد يكون اليوم الدافع الأبرز، إن لم يكن الوحيد، لأي قرار تدخل أميركي محتمل في سوريا.

وعلى هذا الصعيد، لا بد من التنويه بفضل نظام الرئيس بشار الأسد في التوصل، في أربع وعشرين ساعة، إلى ما عجزت المعارضة السورية عن تحقيقه على مدى سنتين ونصف السنة من عمر الثورة: جر الولايات المتحدة إلى تدخل عسكري وإن كان لا يرقى إلى مستوى الإطاحة بالنظام.