المسألة الثقافية في الخليج

TT

قرأت في جريدة إماراتية مقالا عن أساليب تعيين المسؤولين عن الثقافة في بعض دول الخليج، حيث صنفهم الكاتب عبد العزيز المسلم في ثلاث مراتب!. المسؤول الأول: أجنبي الجنس والدين والمكون الثقافي. المسؤول الثاني: أجنبي المكوّن والحس الثقافي، لكنه من أصحاب الشهادات والألقاب، بالعامية «رَزّة»، وهذا النوع يعمد إلى توظيف أكبر عدد من الأجانب الذين يخططون وينفذون. ولقد جلب هذا النوع - طبقا للكاتب - كثيرا من المصائب على الثقافة الوطنية وتسبب في تهميش كثير من المثقفين الحقيقيين. والمسؤول الثالث: وطني الجنس والمكون الثقافي، لكنه خامل، ينتظر الأوامر والتوجيهات ولا يمتلك روح المبادرة والعمل، بل إن بعضهم كثيرو التذمر والشكوى، مما يحدو بأصحاب القرار إلى إبعاده ووضع واحد من النوعين اللذين ذكرناهما في ما سبق، فيستبدلون الهم بهم أكبر منه (جريدة «الرؤية» - 2013/8/18).

وبرأينا المتواضع أن الثقافة هي «الفريق الأضعف» في لعبة التحديث والتطوير في الدولة الخليجية الحديثة!.. وهي الوزارة أو الهيئة التي لا تسبب الكثير من الصداع أو التوتر، لأنها ترتبط بشعراء «يقولون ما لا يفعلون»، أو بمسرحيين تلجمهم الرقابة، أو بكتاب لا ينتجون - في الأغلب - غير المألوف، أو بفنانين تشكيليين لهم عالمهم الذي لا يثير ولا ينرفز، أو باستعراضيين (مغنين، راقصين، محنيات، خياطات، طباخات) يقدمون الجانب المادي الذي لا يتعارض مع المفهوم السائد و«المرتبك» لشكل الثقافة التي تعتد بـ«تابوت التاريخ» ولا تحفل بتطلعات العقل الذي ينير الطريق نحو مجتمع أفضل.

ورغم عدم وجود سياسات واضحة مدروسة للثقافة في منطقة الخليج، فإن «المزاج الإداري» يلعب دورا مهما في توجه مشاريع الثقافة!.. فلئن كان المسؤول الأول عن الثقافة يحب الغناء، نلاحظ كثرة الحفلات الغنائية، وتطويع المهرجانات لهذا النمط من فروع الثقافة!.. أما إن كان ذاك المسؤول «غربي» الهوى فنلاحظ أنه يركز على «استجلاب» فعاليات غربية، ليثبت لأصحاب القرار «مسايرته» للعالمية أو الدولة الحديثة، في الوقت الذي لا يلتفت فيه إلى الإنتاج الفكري الرشيد لأبناء الوطن.

ومن مشكلات الثقافة في الخليج قلة التقييم أو المحاسبة، فنجد أن رئيس قسم التراث يمكن أن يقبع في منصبه 35 عاما يكرر الفعاليات نفسها في قالب ممل وجامد، لأن ثقافته لا تسمح له بالاطلاع، ولغته المحدودة لا تؤهله لفهم أو استيعاب واقع الثقافة العالمية، أو الدخول إلى الإنترنت للاطلاع على فنون وثقافة العالم أو تاريخ الفنون والتراث، قدر ما يهتم بلعب «الكوت» - يعني الكوتشينة - وشرب شاي «الكرك» في «القهوة» أي المقهى!.. وهذا النمط طال «المقاهي الثقافية» - في بعض بلدان الخليج - التي يشرف عليها أجانب لا يرتبطون بالثقافة من قريب أو بعيد. كما أن هذا النموذج من أخطر النماذج على الثقافة الجادة! وتستمر مثل هذه النماذج سنين طويلة لعدم وجود تقييم أو محاسبة. كما أن بعض مسؤولي الثقافة يشهدون سنويا تلك الفعاليات المتكررة المملة، وكذلك يوافقون على تصديرها إلى الخارج في الأسابيع الثقافية الخارجية ولا يوجهون المسؤولين عن تلك الفعاليات إلى ضرورة التجديد، وإشراك فعاليات تهتم بالجانب الفكري للثقافة في الخليج. ولقد تم التحقق من حالات تمثيل المؤسسات الثقافية في الخارج في مؤتمرات أو ندوات متخصصة يكون فيها موظفو الوزارة أو الهيئة ممن ليس لهم ارتباط بموضوع المؤتمر أو الندوة أو الثقافة عموما، ولا أدل على ذلك من حضور «رئيس قسم العلاقات العامة» مؤتمرا ثقافيا متخصصا تُناقش فيه أوراق عمل جادة، بعيدة عن ثقافته أو خبرته المعروفة!.. كما يُلاحظ إقصاء العديد من حملة المؤهلات العليا عن دائرة الثقافة الرسمية!.. وهذا خلل أو «توجس» ليس له ما يبرره.

ومن مشكلات الثقافة في الخليج «التوجس» والحذر من المثقفين الجادين الذين لا يتقنون فن «التطبيل» أو «مسح الجوخ» قدر إتقانهم لفرع متخصص من فروع الثقافة!.. لذلك يلجأ بعض مسؤولي الثقافة إلى «استقطاب» أشباه المثقفين أو الذين لم يقتربوا البتة من الثقافة، من الذين «يترزّزون» - أي يعرضون أنفسهم - أمام مكاتب المسؤول كل صباح ويقدمون له «قصاصات» صحافية من نشاطاته؛ من دون أن يقدموا له دراسات جادة حول توجهات الثقافة أو الهنات التي تواجهها، ووسائل التخلص منها. ومن هنا نشأت فكرة «تبلد» المثقف الخليجي الرسمي «المقرب»، والحذر من المثقف الجاد «المقصي»؛ لأنه أكثر اطلاعا وقدرة على تحليل الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاتجاهات الفكرية الإقليمية والعالمية. فجاء إقصاء هذا النموذج وإحلال أجانب محله - مع تواضع معرفة وقدرات بعضهم - في مواقع ثقافية مهمة، وهذا أدى إلى بروز ظاهرة «التغريب» الثقافي، والتي للأسف لم ينتبه لها كثير من المسؤولين عن الثقافة في المنطقة. فالمشاريع الثقافية سواء كانت (طباعة كتب، أو مسرحيات، أو حفلات فنية، أو معارض تشكيلية، أو نماذج تراثية) كلها تتحقق وفق نموذج «التغريب» الذي يفرضه المستشارون الأجانب أو المنفذون الذين يفتقرون لأدنى صلة لهم بالثقافة.

المسألة الأخرى في الثقافة الخليجية هي فقدان المبادرة والتجديد، التي أشار إليها الكاتب، وحذر بعض مسؤولي الثقافة من تقديم «مغامرات» ثقافية تتجاوز «العادة» الثقافية السيئة والمُملة والمتكررة، والمتمثلة في إبراز نماذج الأداء الفيزيائي «المادي» للثقافة وتهميش نماذج الأداء الفكري الإبداعي. وفي هذا قول كثير قد لا تتسع له المساحة. وطبقا لذلك، ظهرت «التصنيفات» ودوائر «الفصل» على الساحة الثقافية، وتعددت أشكال ذلك «الفصل» بين عدم تجاوب الهيئة المسؤولة عن الطباعة مثلا مع عروض المثقفين الجادين أو شراء إنتاجهم (كونهم من الهامش)، علما بأن قيمة شراء كتاب قد لا تزيد على 5 آلاف ريال، بينما يتم تقريب بعض العروض «الهشة» التي يقدمها مخرجون يتمتعون برضا «المركز» يكلفون الهيئة أو الوزارة 3 - 8 ملايين ريال! أو استجلاب متحدثين (من جنسية القائم على تلك العروض)، أو استكتاب كتاب من البلد ذاته الذي ينتمي إليه رئيس تحرير المجلة الثقافية أو مدير تحريرها. وهذا مؤشر غير عقلاني، كان يتوجب على هيئات الثقافة الانتباه إليه. ونلاحظ على بعض المطبوعات الثقافية في المنطقة خلوها من المواضيع الخليجية، وتركيزها على المواضيع والشخصيات العربية أو الاستشرافية، وهذا يعتبر «غبنا» لمساحة ثرية من الجغرافيا الثقافية العربية و«تجاهلا» غير حميد أو عادل للثقافة التي لا تعرف الحدود ولا الجنسيات ولا الإثنيات.

ومن هنّات الثقافة في منطقة الخليج نقص «التناغم» بينها وبين الإعلام – إلا في ما ندر – الأمر الذي أطّر اتجاهات إعلامية «تغريبية» لا تحفل بالواقع الثقافي للمنطقة، قدر تكريسها للأشكال «التغريبية» أو «التابوتية التاريخية للتراث» التي لا نجد لها نظيرا في وسائل الإعلام الأخرى! ذلك أن من أهداف الإعلام تعريف المشاهد العربي أو الآخر بمضامين ورموز الثقافة المحلية، لتبديل الصور النمطية التي أصّلها الإعلام العربي والغربي عن منطقة الخليج، كما تندر بها بعض المثقفين العرب عندما وصفوا أهل الخليج بأنهم «أهل النفط الجهلاء» ووصفوا أنفسهم بأنهم «أهل الثقافة الفقراء»!.. فدور الإعلام هنا واجب لتبديل هذه الصورة «الجائرة» عن أهل الخليج. كما أن تناول بعض المذيعات والمذيعين «غير الخليجيين» للتراث الخليجي والثقافة الخليجية بصورة «كاريكاتيرية» لا يحقق المأمول من ذلك الإعلام، حتى لو لبست المذيعة «الدفة»!

المسألة الثقافية في الخليج تحتاج إلى نقاش جاد وعقلاني، حتى تتواءم الثقافة مع المنجزات الحضارية التي تحققت في المنطقة في المجالات الأخرى.

* كاتب قطري