عمامة في ريف باريس

TT

الطريق إلى الملتقى الاقتصادي الصيفي في ضاحية باريس يمرّ بحقول خضراء تبهج الروح، وبينها مساحات تحولت إلى اللون الخاكي بعد حصادها. اللون الذي يذكرني بما أرجو نسيانه. إن الاقتصاد والأرقام والنسب المئوية ومعدلات النمو أو البطالة ليست مهنتي. لكنني ذاهبة للسلام على موفدة جاءت من بلد عربي. يعني «مالي شغل بالسوق.. مريت أشوفك».

سمعت خبراء من الشرق والغرب يتحدثون عن التغيرات التي يعيشها العالم بسبب الأزمة. وبرز على المنصة، بين المشاركين، شاب أسود يدعى تيون ميانغ، وهو أميركي عمل في الحملة الانتخابية للرئيس أوباما كناشط في أوساط الشبيبة الديمقراطية. وبصوت قوي وواضح راح المتحدث يلوم أرباب العمل الفرنسيين لأنهم لا يؤمنون بقدرات شبابهم ولا يمنحونهم فرصا مناسبة للعمل. قال الخبير الذي يتكلم الإنجليزية بلكنة مختلفة، إنه وجد في بلاده مئات الفرنسيين من حملة الشهادات العالية الذين ذهبوا يبحثون عن عقد أو وظيفة، وإنه سافر إلى بلاد كثيرة ووجد شبابا تركوا فرنسا سعيا وراء فرصة في الهند والصين وحتى في أفريقيا. لماذا لا تحتضنونهم؟ يرفع نبرة صوته بالسؤال مثل قاض يؤنب متهما فتضج القاعة بالتصفيق وعبارات الاستحسان.

فهمت غرابة لكنته حين ذكر أنه مولود في السنغال وقد وصل إلى نيويورك عام 2000. قال إن أميركا منحته فرص التعليم والتقدم بحيث أنه، في أقل من خمس عشرة سنة، تمكن من الالتحاق بطاقم حملة أوباما للرئاسة. وأضاف أن الكبار هم أولئك الذين يجعلون العالم أفضل. فالتاريخ لم يحفظ أسماء غاندي وكنيدي ومارتن لوثر كينغ لأنهم كانوا يملكون المال بل لأنهم عملوا في سبيل أن يكون العالم أكثر عدالة. ولما ختم كلمته بأنهم، في أميركا، يسعون دائما لأن يكون العالم أفضل، عاد المستمعون الذين قارب عددهم الألف إلى التصفيق الحماسي والطويل. لكنني وجدت نفسي عصيّة على الانسجام مع حماسة القاعة وفكّرت أن الأميركيين جاءوا إلى بلدي فلم يعد أفضل.

في طريق العودة، تأملت عائلات توقف سياراتها عند مزارع الطماطم الطبيعية، غير المسمّدة بمواد ضارة، وينزل الصغار لقطفها ويسلمون الأكياس إلى الأمهات. تضع المرأة الكيس على الميزان وتدفع الثمن للمزارع وتمضي مع أطفالها سعيدة بخضار آمنة، ألذ وأرخص من التي في «السوبرماركت». كل شيء آمن في هذا الريف. كل شيء مضطرب عندنا.

على يمين الطريق، كان الحاصدون قد مروا بحقول الذرة وتركوا آلاف الشتلات خاوية من أكوازها. ولا أدري كيف تراءت لي عمامة الحجّاج وسط الطبيعة الفرنسية، بل سمعته يخطب متوعدا الرؤوس التي أينعت وحان قطافها. إنها ما زالت تقطف في العراق، بعد كذا مائة سنة، فهل قرأ المستر تيون ميانغ تاريخ ابن يوسف الثقفي، الوالي الذي تصور أنه، بالسيف، سيساهم في جعل العالم أفضل؟