واحسرتاه على البوسطجي

TT

تعاني معظم الدول العربية الآن من انهيار الخدمات البريدية. يصدق ذلك بصورة خاصة على العراق. لم أتسلم منه أي رسالة أو «رزمة» منذ سقوط صدام حسين. الشيء الوحيد الذي يسلمه أو يتسلمه البوسطجي الآن هو راتبه الشهري. يعتمد المتعلمون على خدمات الإنترنت، والأميون على التليفون وعلى أهل الخير ممن يحملون لهم أخبارهم لذويهم.

البريد من أسس الحضارة المعاصرة وعليه قامت ونشأت. فمثلما قامت الديمقراطية على الثورة الصناعية وقامت الثورة الصناعية على الثورة العلمية فإن الثورة العلمية قامت على الخدمات البريدية. وكان الإنجليز أول من انتبهوا لأهميتها في كل شيء فسارعوا منذ بداية القرن التاسع عشر إلى إقامة أرقى وأقوى نظام بريدي محكم توسعوا فيه لربط سائر أجزاء الإمبراطورية ومن ثم العالم كله. مكنهم هذا النظام من السيطرة التجارية على كل أسواق المعمورة.

قلما نتذكر أن هذا البريد المحكم كان من أهم أعمدة التقدم العلمي وكل هذه الاكتشافات والاختراعات التي أذهلت العالم. فلم تكن هناك تليفونات أو كومبيوترات تنقل للعلماء آخر المستجدات العلمية أو تمكنهم من التواصل وتبادل الأفكار مع بعضهم بعضا. حتى السفر وعقد المؤتمرات كان مهمة شاقة. ظلت وسيلتهم الوحيدة الاعتماد على البريد في التواصل وتسلم الأبحاث والمجلات والنماذج العلمية. يروي المؤرخون أن تشارلز داروين، صاحب نظرية «التطور» وكتاب «أصل الأنواع»، لم يستطع تحقيق ما أنجزه لولا الأكياس المثقلة بالرسائل والطرود والمجلات التي كان يسلمها له ساعي البريد صباح كل يوم. اعتمد عليه حتى في الحصول على النماذج الأحيائية التي كان يستوردها من أقصى جهات العالم ويجري عليها تجاربه.

تغص المكتبات الوطنية في العالم، كالمكتبة البريطانية ومكتبة الكونغرس الأميركي والمكتبة الوطنية في باريس، بشتى هذه الرسائل والوثائق التي حملها ساعي البريد وسلمها لأصحابها بما أفضى إلى النتائج الخطيرة من التقدم العلمي والاقتصادي والسياسي التي اكتسحت العالم خلال القرنين الماضيين وتمخضت عن هذه التحولات في حياة الإنسان.

اعتمد كل شيء على الخدمات البريدية التي أصبحت ركنا أساسيا من الحضارة المعاصرة. إتلاف الرسائل أو حتى عرقلة تسليمها يعتبر جريمة تعاقب عليها سائر الأنظمة. هناك قصص عجيبة وطريفة في هذا الشأن. أراني صديقي يوسف سليم مظروفا لرسالة من مواطن عراقي لم تحمل غير اسمه بالعربية ورقم الحافلة 49. ضحكت ودهشت. قال: «لم يعرف المرسل عنواني لكنه عرف أن الباص 49 يمر أمام بيتي. استطاع البوسطجي الإنجليزي أن يحزر لمن تعود الرسالة فسلمها لي».

تكاد الدول الناهضة تعتبر البريد شيئا مقدسا. لا حياة للإنسان من دونه. لكنه أصبح عندنا أول نظام ينهار حالما تضطرب البلاد. وفي ذلك خطورة رهيبة. فالنخبة تلجأ للكومبيوتر والتليفون الجوال والبريد التجاري. لا سبيل لبقية الشعب لاستعمال هذه الوسائل المتطورة فيصبح الواحد منهم أشبه بأطرش في زفة عرس. وهذا مما يضاعف الهوة بين المتنعمين والمحرومين، وبين المتعلمين والأميين.