تغير عالم السرية

TT

إحدى النتائج المثيرة للاهتمام، التي تمخضت عما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» يوم الخميس الماضي؛ «الميزانية السوداء» السرية لأنشطة المخابرات، هي أن الولايات المتحدة لم تعد تملك كثيرا من الأسرار بعد الآن، في عصر «ويكيليكس» والمخبرين المنتشرين في كل مكان. وبسبب صمود محرري «الواشنطن بوست»، لم تخرج جميع صفحات الوثيقة البالغة 178 صفحة، ذات السرية الشديدة، إلى العالم.

لقد تسبب عجز حكومة الولايات المتحدة الواضح في الحفاظ على الأسرار في مشكلات بارزة لوكالات الاستخبارات، التي أُنشئت بهدف سرقة أسرار الشعوب الأخرى وحماية المواد الخاصة بهم. ولكن لم يتضح جيدا بعد أن هذا الكمّ من التسريبات يهدد الشعب الأميركي، ذلك لأن معنى السرية يتغير في عالم وسائل الإعلام الاجتماعية الشفافة، حيث يفترض أن تُلتقط كل ضغطة على لوحة المفاتيح من قبل شخص ما.

أكتب هذا على مضض، كشخص يفضل مجتمعا استخباراتيا قويا للولايات المتحدة قادرا على حماية البلاد من التهديدات الخارجية الحقيقية. ولكن إن كان هناك أمر أبرزته هذه الوثائق، فهو أن الولايات المتحدة تنفق مبالغ طائلة على أجهزة الاستخبارات، خاصة في وكالة الاستخبارات المركزية، من دون الحصول في المقابل على ما يكفي. إننا بحاجة إلى إدارة أفضل، بدلا من مزيد من السرية.

يقول جون ماغواير، وهو ضابط سابق شارك في عمليات وكالة المخابرات المركزية، وتقاعد منذ عدة سنوات: «يجري استخدام السرية والمبالغة في التصنيف اليوم لإخفاء المخالفات والفساد المنهجي، والقصور في الاستخبارات». وقد سمعت انتقادات مماثلة من الضباط السابقين الآخرين الذين يعتقدون أن وجود وكالة استخبارات أصغر حجما وأفضل إدارة سيكون أكثر فعالية.

أبرز ما كشفت عنه «الميزانية السوداء» القلق بشأن الزيادة الحادة في الإنفاق على وكالة الاستخبارات المركزية، التي طلبت 14.7 مليار دولار في عام 2013، أو ما يزيد بـ50 في المائة تقريبا على الـ10.8 مليار دولار التي طلبتها وكالة الأمن الوطني (وكالة التنصت)، أو الـ10.3 مليار دولار التي طلبها مكتب الاستطلاع الوطني. وقد عكس مزيج الإنفاق هذا إعادة توازن واضحة لجمع الاستخبارات الأميركية، الذي كان يميل تقليديا نحو النظم التقنية، بعيدا عن العنصر البشري. ففي عام 1994، على سبيل المثال، كانت ميزانية وكالة المخابرات المركزية 4.8 مليار دولار فقط.

ما الذي حصل عليه الجمهور مقابل هذه الأموال؟ يذهب 39 من الميزانية السرية البالغة 52 مليار دولار، لما وصف بأنه «الاستخبارات والإنذار الاستراتيجي»، الذي يبدو محتفظا بمكانته منذ الحرب الباردة. أما ثاني أكبر الأنصبة (33 في المائة)، فأنفق على «مكافحة التطرف العنيف». وهذه إحدى الفوائد التي أعتقد أنها تستحق المال الذي أنفق عليها.

جدير بالذكر أن وكالة الاستخبارات المركزية لمكافحة الإرهاب قد نجحت نجاحا ملحوظا على مدى العقد الماضي، حيث أظهرت حروب العراق وأفغانستان حدود القوة العسكرية التقليدية. لقد انزعج العالم على نحو واضح من استخدام الولايات المتحدة طائرات من دون طيار مسلحة، لكن يجب أن تصدر الأحكام وفق فائدتها في ساحات القتال، فلم يكن هناك سلاح آخر أكثر موثوقية منها. فعندما أحدث ناشط «القاعدة» إلياس الكشميري حالة من الذعر في أوروبا عام 2010 بتهديده بمهاجمة أهداف هناك، قامت طائرات من دون طيار بتدميره هو وشبكته. وفي الشهر الماضي، عندما تسبب تنظيم القاعدة في اليمن في حالة مماثلة من الذعر، وأغلقت 22 سفارة أميركية في دول الشرق الأوسط، أحبطت هجمات الطائرات من دون طيار المؤامرة.

انعكست معضلة مجتمع الاستخبارات في العصر الحديث في واحدة من عمليات الكشف الرائعة للميزانية السوداء. وبحسب رواية «واشنطن بوست»، تعتزم وكالة الأمن القومي التحري عن أربعة آلاف شخص على الأقل من موظفيها والمتعاقدين معها في عام 2013، ويرجع الفضل في ذلك جزئيا إلى البرنامج الجديد الذي يمكنه الكشف عن السلوك «الشاذ»، الذي تمارسه القوى العاملة. والمؤسف أن ذلك لم يثمر أيضا؛ فيبدو أن هاواي، حيث كان إدوارد سنودن يعمل متعاقدا، كانت بين الأماكن القليلة التابعة لوكالة الأمن القومي التي لم يصل إليها كاشف «الشذوذ».

كيف تقوم بإدارة منظمة تضع 4000 من موظفيها موضع المشتبه فيهم؟ أخشى أنه إذا حاولت وكالة الأمن القومي فرض ضوابط أكثر صرامة من أي وقت مضى، فربما يؤدي ذلك إلى ظهور عدد أكبر من العمال الساخطين ومجموعة أكبر من الحالات الشاذة. وقد تظهر حالة «الخوف الأحمر» عقب ما قام به سنودن، ولكن جعل كل موظف مشتبها فيه، من المتوقع أن يأتي بنتائج عكسية.

في عالم لا يوجد به سر، فإن الدول التي ستحظى بميزة (يرى البعض أنها ستكون الدول البوليسية)، مثل روسيا (ملجأ سخيف لسنودن)، أو الصين، التي سوف تكون قادرة على تكميم أفواه شعوبها وحماية أسرارها.

ولكن أعتقد أن العكس هو المرجح أن يكون صحيحا، وسيكون المستفيدون في عالم انعدام الأسرار المجتمعات المنفتحة نسبيا، مثل الولايات المتحدة التي تطور ببطء ثقافة المساءلة والإفصاح عن وكالات الاستخبارات الخاصة بها، على الرغم من الألم الذي تشكله مثل هذه العملية من الأسرار والحماية القليلة.

* خدمة «واشنطن بوست»