خصخصة «الربيع»

TT

في خطابه الأخير عن سوريا وطلبه التفويض من الكونغرس الأميركي لتدخل عسكري هناك، أشار الرئيس الأميركي باراك أوباما في إحدى الفقرات إلى أن آمال «الربيع العربي»، في إشارة إلى التغييرات التي شهدتها عدة جمهوريات عربية في 2011، أخرجت قوى تغيير ستأخذ سنوات طويلة لكي تستقر. وهو تسليم ضمني بما أصبح كثيرون يسلمون به، وهو أن الاستقرار ليس وشيكا، وقد يأخذ سنوات أو حتى عقودا؛ فالتغييرات التي حدثت أخرجت قوى متصارعة ستحتاج إلى وقت لكي تستطيع أن تصل إلى صيغة مشتركة لبناء مجتمعات جديدة مستقرة، وقادرة على الازدهار وتلبية حاجات مواطنيها.

وحتى طلب التفويض أو الطرح المقترح للتدخل العسكري من جانب تحالف دولي تحاول واشنطن بصعوبة بناءه لتوجيه ضربات محدودة ردا على استخدام السلاح الكيماوي، هو عملية إدارة للصراع، أو احتواء له أكثر منها تفكيرا في اليوم التالي، أي في خطة تغيير للنظام أو ترجيح كفة على أخرى من أجل بناء شيء جديد على أنقاض شيء يدرك الجميع أن وفاته مسألة وقت، ولا أحد لديه خطة واضحة حول مستقبل سوريا، بينما تحولت الانتفاضة هناك من سلمية إلى مسلحة ثم أصبحت حربا أهلية بأبعاد طائفية في شيء لا علاقة له بأي ربيع.

القوى المتصارعة هي السبب في كل هذه الفوضى ومشاهد عدم الاستقرار والظواهر الفريدة والنادرة التي أصبحت في بعض الأحيان عجيبة من تونس إلى مصر وليبيا وحتى اليمن، وأتاحت الفوضى مناطق فراغ نشطت فيها تنظيمات الإرهاب والخراب التي تحمل فكر «القاعدة» وما شابهها. والفشل الداخلي في الوصول إلى صيغة مقبولة من الجميع لإدارة الصراع السياسي هو سبب كل هذا الاضطراب وعدم القدرة على الوصول إلى شاطئ آمن حتى الآن.

بين هؤلاء تأتي ليبيا التي كان كثيرون يراهنون على أنها بسبب إمكانات الثروة النفطية تستطيع أن توظف هذه الثروة لتحقيق نهوض سريع خاصة بعدما أصبحت هذه الثروة في يد الشعب من دون الإنفاق المكلف للنظام السابق في مغامرات خارجية كان مردودها دعائيا أكثر من أي شيء آخر. لكن بين التمني والواقع مسافة واسعة، فإنتاج النفط، الثروة الأهم وربما يكون المصدر الأساسي لعائدات الدولة، هبط بنسبة 70 في المائة بعد أكثر من عامين على النظام السابق نتيجة محاولات السيطرة على الإنتاج والعائد من ميليشيات في كل منطقة إلى درجة تهديد الدولة بضرب الناقلات التي تدخل الموانئ لتأخذ نفطا غير شرعي. ببساطة هي عملية أشبه بخصخصة الثورة أو «الربيع الليبي» لصالح ميليشيات كل واحدة ترى أن لها دورها الذي قامت به في الإطاحة بالنظام وتريد العائد الآن نقدا، ولا تستطيع الانتظار حتى تقوم دولة بمؤسسات قوية تنمي وتطور وتخلق آليات ليتوزع بها العائد بشكل اقتصادي كما تفعل كل الدول في العالم.

والمشكلة في ليبيا هي أن النظام السابق أضعف بشكل كبير عمدا مؤسسات الدولة، وترك مشاكل مناطقية وشعورا بالغبن في بعضها، مما جعل مهمة الذين تولوا السلطة بعد ذلك شديدة الصعوبة وستحتاج إلى وقت طويل لبناء هذه المؤسسات وإرساء دولة القانون، ما لم تطح الميليشيات المسلحة والطموحات الخاصة بكل فصيل سياسي بهذه الجهود التي تحتاج إلى استقرار أولا، ثم توافق وطني، وهو الأهم.

ومثل مصر وتونس، فإن جزءا كبيرا من التقلبات، واستمرار حالة عدم الاستقرار، هو الافتقاد إلى هذا التوافق الوطني نتيجة محاولة الاستفراد أو القفز على اللحظة وسط الفوضى أو الفراغ في السلطة الذي حدث من قبل فصيل أو تيار سياسي معين على حساب الآخرين، أو التيار العام للناس الذين رغبوا في التغيير لكنهم لم يكونوا يريدون أن تكون نتيجته هكذا.

هذا ما وضح في مصر عندما قفزت جماعة الإخوان التي كانت الوحيدة التي تملك التنظيم وخبرة العمل السياسي الواسع في الشارع وظنت أن اللحظة هذه يمكن أن تكون مائة عام، وحاولت الانفراد وفرض رؤيتها بدلا من التوافق وخصخصت «الربيع المصري» لصالحها، فمنيت بهزيمة تاريخية أسقطتها خلال عام، وما زالت تحتاج إلى وضع نظارات لرؤية كم الرفض وعدم الثقة فيها الذي أصبح موجودا الآن في الشارع ضدها.

وفي تونس هناك صراع شبيه يدور، وتتوقف نتيجته على قدرة الأطراف على الوصول إلى توافق ورؤية مشتركة مبنية على الثقة وليس الموقف التكتيكي انتظارا ليوم آخر.

المؤكد أن «الربيع» بمفهومه الحقيقي لم يأتِ بعد، أو سيأخذ وقتا، لكن أهم دروس فترة العامين ونصف العام الماضية هو أن التغيير في المجتمعات مسألة شديدة الصعوبة وتحتاج إلى وقت، وأن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن يسعى طرف إلى قراءة مجتمعه من خلال آيديولوجيته الضيقة بدلا من السعي للتوافق على إطار مشترك يرضى به الجميع وينظم شكلا مدنيا للتنافس السياسي الطبيعي.