ظاهرة هجاء أوباما.. الفصل بين الشعبي والسياسي!

TT

شكلت سياسة أوباما المرتبكة والمترددة لغزا محيرا لكل المتابعين لسلوك الإدارة الأميركية في ملفات الأزمات السياسية والنزاعات المسلحة، فالحساسية من نموذج شرطي العالم الذي عززه سلفه جورج دبليو بوش باتت شبحا يلاحق تجربة أوباما الحقوقي والأخلاقي الذي أخطأ طريق السياسة، حيث لا يمكن تحويل فوبيا التورط في حروب ونزاعات على غرار تجربة العراق إلى دافع لتأسيس الصمت على مجازر وإبادة واستخدام للسلاح المحظور والكيماوي كالذي تفعله عصابات النظام الأسدي بحق الشعب السوري.

لكن هل التحليل بأدوات رؤية أوباما الأخلاقية باعتباره رجل اللاعنف الأكثر مثالية في مسيرة الولايات المتحدة يبدو مبتسرا وساذجا إذا ما أغفلنا المصالح الاستراتيجية للأمن القومي الأميركي التي تؤطر هذا الحياد المستفز من قبل إدارة أوباما، وربما كان التركيز في الطرح العربي العاطفي على شخص أوباما وخيبة الأمل أحد أكثر العوامل تسطيحا في فهم ما يجري وبالتالي طريقة التنبؤ بالمستقبل.

الإدارة الأميركية تتبنى نهج الاستنزاف المتبادل بين النظام الأسدي وعصاباته والشعب السوري وكل الفئات المقاتلة بهدف إسقاط بشار باعتبار أنهما طرفا نزاع وليس إرهاب دولة قمعية ضد ثورة شعبية بدأت سلمية وانتهى بها الإهمال إلى تبني سياسة الأمر الواقع حيث الانسداد السياسي وتبني خيار إسقاط النظام بالقوة ودخول مجموعات مسلحة استغلت حالة الفراغ السياسي الذي خلفه تباطؤ المجتمع الدولي.

الجميع اعتقد أن تورط النظام الأسدي في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه قد يكون المحرّك الأول لأي تدخل أميركي أو دولي لا سيما بعد كلمة أوباما الأخيرة التي تحدث فيها بشكل صريح عن مسؤولية نظام بشار وأنه بات يشكل خطرا على الأمن القومي وأن عقابه بات أمرا محسوما، وهو هنا يخاطب الرأي العام أكثر من كونه يؤسس لمرحلة جديدة تخص الأزمة السورية، بدليل أنه تراخى في تحديد الإطار الزمني وربطه بالحصول على تفويض من الكونغرس وهي حجة تبدو للأميركيين قانونيا وأخلاقيا مشجعة باعتبار أن الرئيس لا يريد الذهاب منفردا بقرار الحرب، لكن هذه الحجة وفق سياسة أوباما نفسها تبدو تناقضا سياسيا فادحا، فهو تأخر في مشاورة الكونغرس كما أن سابقة مشاركته في إسقاط نظام القذافي من دون الرجوع للكونغرس تضع علامات استفهام كبيرة وتقودنا إلى البحث عن سبب آخر أكثر منطقية لا سيما أن الشعب السوري قدم من الضحايا ومبررات التدخل ما لم يسبق إليه في كل التجارب المماثلة (قرابة المائة ألف قتيل حتى الآن).

الارتباك الأوبامي ليس أخلاقيا ولكنه سياسي بامتياز؛ ذلك أن الولايات المتحدة لديها تحفظها على طرفي النزاع بالطبع ليس الشعب السوري ولكن نظام الأسد من جهة والمجموعات المقاتلة بدرجة أولى والمكونات السياسية المناهضة لنظام بشار بدرجة ثانية، فبقاء بشار هو انتصار للمحور الإيراني بأكمله الذي تزداد رقعته الجغرافية ويقل نفوذه السياسي، ونهاية بشار في نظر الولايات المتحدة الآن هي صعود لموجة من التطرف المسلح قد تشكل تهديدا على أمن إسرائيل والمصالح الأميركية في المنطقة، لذا فمن المهم جدا ألا تحدث ساعة الحسم قبل إنهاك كل الأطراف وإيجاد ضمانات سياسية مقنعة، لكن هذا التفكير الكارثي مبني على تصور خاطئ لطبيعة المجموعات المقاتلة في سوريا وأدوارها المحتملة ما بعد انتهاء الأزمة.

الوجه الآخر والأكثر خطورة على المدى البعيد في هذا التعامل السياسي المزدوج فيما يخص الأزمة بسوريا، هو تقديم المنطقة بأكملها للنفوذ الروسي الذي من شأنه ابتلاع النفوذ الإيراني المبني على استقرار نظام الأسد وتماسكه، فروسيا اليوم تستعيد جزءا من عافيتها بسبب التفاوض معها لحل الأزمة السورية، وروسيا اليوم قد تشكل بديلا للنظام المصري المجروح وبشكل نرجسي من التبني الأوبامي للإخوان كما هو الحال وبنسب أكبر تجاه تركيا وقطر، وهذا بحد ذاته دليل على فشل ذريع في السياسة الخارجية تجاه المنطقة.

هل نعيش مرحلة انتقالية لمرحلة انتهاء القطب الواحد؟ ربما يبدو هذا مبكرا، إلا أن كل المؤشرات تقول إن حالة الفوضى التي تقبل عليها المنطقة ستقودنا إلى أقطاب متعددة ستعيد طرح المسألة الجيوسياسية برمتها، لكنها في ظل المعطيات المتناقضة والتحديات الكبيرة للاستقرار ستفرخ محاضن للعنف والفراغ السياسي تجعل القوى الدولية تبتعد عن التأثير السياسي إلا بدفع أثمان باهظة ومكلفة.

موجات الشخصنة التي تطال الرئيس أوباما والتي باتت تشكل ثقافة جمعية تبدأ بنكات في رسائل الجوال إلى محاولات للتكهن عن ثغرات في سيرة حياته وصولا إلى التهريج المبتذل كالذي يطرح بشكل انفعالي جدا في الصحافة العربية والمصرية على وجه الخصوص، تعبّر عن خيبة أمل بأدوات غير سياسية وهي وإن كانت متفهمة في سياقها الشعبي والاجتماعي، إلا أن تحويلها لأدوات تحليل سياسي وفهم لما يجري تدشين لمرحلة جديدة من اختراق الشعبوية السياسية لمواقع صناعة القرار السياسي والتأثير، هذا الطغيان لكل ما هو شعبوي وتبسيطي يعبر بشكل واضح ومؤلم عن عمق الأزمة التي تردينا إليها أكثر من تفوقنا في هجاء الآخر.

[email protected]