صنع في مصر

TT

أغرب ما قرأت هذا الأسبوع هو تقرير يفيد بأن نصف مليون شخص في المملكة المتحدة يعيشون على فيض الكريم ويلجأون لبنوك الطعام للحصول على القوت. والطريف هو أن كاتب التقرير استنكر أن تكون الغابات والطرق الريفية محملة بأغصان مثقلة بكل أنواع التوت الأحمر منه والأسود، وأن أشجار التفاح تجود بثمرها بالمجان لمن يطلبه، وفي الوقت نفسه يفضل المحتاج أن يتسول القوت من بنك الطعام. وأشار إلى أن برودة فصل الربيع هذا العام واستمرار شهور الصيف المشمسة أديا إلى غزارة المحاصيل البرية التي يمكن للعائلات أن تجمعها وتستفيد منها كطعام أو في صنع المشروبات والحلوى والمربى.

ورغم اختلاف الزمان والمكان ذكرني التقرير بأغنية مصرية كنا نغنيها في الأيام الخوالي. كنا نغني للتوت فنقول: في أوان التوت نشرب شربات ويلم التوت صبيان وبنات.

كل ما أذكره عن التوت الذي اختفى من الحياة المصرية، ربما لأن الصبيان والبنات لم يعودوا مهتمين بجني التوت قدر اهتمامهم بالسلع التي تروِّج لها ماكينات الإعلام مثل الكوكاكولا والشيبسي وخلافهما، كل ما أذكره هو حلاوة التوت وقصر موسمه.

في الأيام الخوالي كانت ربات البيوت على دراية كاملة بالمواسم وما تمليه عليهن من نشاط. ففي موسم الطماطم كانت البيوت تنشغل بعصر الطماطم وإعداد الصلصة الحمراء وتخزينها في البراد لأنها تدخل يوميا في إعداد الطعام. ولا شك أن الدافع لمثل ذلك النشاط كان الاستفادة من رخص أسعار الطماطم في موسم جني ثمارها.

وإن نسيت فلن أنسى موسم النارنج وإعداد المربى وتعبئتها في أوان زجاجية تغسل وتجفف وتعقم ويحكم إغلاقها قبل أن تجد مكانا داخل الخزانة، وبعد إرسال برطمان أو اثنين أو ثلاثة للجيران المقربين. واعترف بأنني أشعر ببعض الأسى حين تعاودني ذكرى مربى النارنج لأنني بعد اغترابي ومضي قطار العمر أصبحت من أكثر المشجعين لمربى النارنج، ولا تمضي رحلة التجول في السوبرماركت من فحص أنواعها المختلفة على الأرفف وقراءة المعلومات المطبوعة على البرطمان، ومنها أن المربى خالية من المواد الحافظة والسكر الصناعي، وأنها صنعت من نارنج إشبيلية الإسباني. أشعر بالأسى لأنني لم أتعلم من أمي كيفية إعداد مربى النارنج، وأضطر اليوم لشرائها من السوبرماركت.

دافعي لكتابة هذه السطور ليس اجترار الذكريات، ولكن التقرير الذي قرأته شجعني على الجهر باستنكار الحال الذي آلت إليه المجتمعات فتحول الأفراد والجماعات من طاقات إنتاجية إلى طاقات استهلاكية تستمرئ الكسل وتستنكر موروثات ليتها دامت. فلو دامت تلك الموروثات لاستمتع كل طفل عائد من مدرسته برائحة الخبز والطعام البيتي تنبعث من داخل البيت فتشعره بأمان واطمئنان بعيدا عن إغراء دجاج «كنتاكي» وهمبرغر «ماكدونالد».

في هذه اللحظة تشدني الذكرى بقوة إلى سطح البيت الذي فيه ولدت وفيه أمضيت العشرين عاما الأولى من حياتي. على سطح البيت كانت أربع دجاجات تمرح ثم تعود إلى القفص قبل أن تغرب الشمس. وكان في ركن القفص «بلاص» من الفخار مائل على جنبه بحيث ترى الدجاجة فتحته. وفي الصباح كان أطفال الأسرة يتسابقون للصعود إلى السطح وإلى القفص. ثم تمتد اليد بحذر يشوبه خوف غريزي إلى داخل «البلاص». ثم يتبدد كل خوف ويحل محله عجب وإحساس بالفوز بغنيمة أثمن من حبات الماس، وهي بيضة أودعتها إحدى الدجاجات في مخبأ أمين.

في الشباب المبكر كانت أسماء مصممي الأزياء مثل ديور وجيفنشي هي مجرد أسماء نقرأها في المجلات ثم ننساها. أما أدوار البطولة فقد قامت بها الأمهات والخالات، بدءا بشراء الأقمشة من المتاجر الكبرى وانتهاء باستخدام المقص وماكينة الخياطة لإبداع أثواب رائعة الجمال أشعرتنا بالأناقة والفخر وأغنتنا عن الإحساس بالقهر والحرمان من ألاعيب الموضة الراقية. لماذا اختفت ماكينات الخياطة من بيوتنا؟ ولماذا تراجعت صناعة النسيج والأقمشة واستسلمنا لعبارة تغزو الوعي واللاوعي، وهي: صنع في الصين؟