ما بين «رابعة» و«مير»!

TT

ما نراه الآن، ليس فقط إرهابا تواجهه مصر، وإنما حرب بمعناها وأدواتها الكاملة، تشن على بلادنا، وتستهدف أول ما تستهدف الجيش المصري لإسقاطه لكي يسهل استحلال الأرض والشعب وتغيير هويته. ولكن، هل من الممكن أن ينجح الإرهاب في التمكن من مصر حتى لو اعترفنا بمدى صعوبة الوضع الاقتصادي للبلاد ومعاناة المصريين من الطبقات المتوسطة والفقيرة؟ بالطبع، لا، وهذا ليس كلاما مرسلا، ولكن لأسباب منطقية، يعلمها كل من يعرف تاريخ مصر. فمنذ النشأة الأولى للدولة المصرية، نجد أن أحد مقومات الحضارة، بل وعمادها الرئيس هو قيمة (الماعت) التي تعني الحق والعدل والنظام. هذه حضارة تقوم على ركائز، لا تتحقق إلا بتحقيق السلام على أرضها، وهو ما جاهد من أجله الشعب المصري وحكامه منذ أكثر من خمسة آلاف سنة.

ولنذهب إلى منطقة (مير) في صعيد مصر، حيث نجد مقبرة لأحد قادة الجيش المصري منذ خمسة آلاف سنة، وعلى أحد جدرانها منظر مصور يؤرخ لمظاهر فض أول اعتصام غير سلمي في تاريخ الإنسانية، وهو أمر مثير يجب توضيحه وشرحه لكي نعرف من الجيش المصري، وعن أي بلد عظيم نتحدث. المنظر يصور أعداء للدولة المصرية يهددون أمنها ويعتدون على طرق التجارة وبعثات التعدين المتجهة إلى سيناء، وهؤلاء الأعداء اعتصموا داخل قلعتهم عندما علموا بخروج الجيش المصري لردعهم عن الأعمال العدائية ضد الدولة المصرية. لم يعتصم الأعداء وحدهم داخل القلعة، بل استخدموا النساء والأطفال كدروع بشرية، لأنهم يعلمون أن الجيش المصري لا يقتلع زرعا من أرض ولا يعتدي على شيخ أو طفل أو امرأة، وهذا كله مسجل ومعروف منذ أيام القائد العظيم (وني) منذ عصر الأسرة السادسة، وسنحكي قصته لاحقا. المهم، أن الأعداء رفضوا التسليم للجيش المصري وفض اعتصامهم والامتناع عن أعمالهم العدائية، ولم يكن الجيش المصري يحمل قنابل غاز أو أسلحة خرطوش أو صوت أو أي من الأدوات المستعملة في فض الاعتصامات غير السلمية منذ خمسة آلاف سنة، وكان كل ما يحمله هو السهام والسيوف، بينما نصب الأعداء مجموعة من القناصة بسهامهم في المواقع الاستراتيجية بأسوار القلعة، وذلك للقيام بقنص كل من يحاول الاقتراب من القلعة. في هذا الموقف، كان أسهل شيء يمكن تصوره هو قيام الجيش المصري بإحراق القلعة بمن فيها؛ فيجبر المعتصمين بها على الخروج والنجاة بأرواحهم، ولكن ما نراه مصورا هو تكتيك مثير يعبر عن عقيدة جيش هو الأول في تاريخ البشرية. جنود مصريون يستهدفون قناصة الأعداء بالسهام متحصنين خلف دروعهم، وبينما القناصة يتساقطون يأتي جنود آخرون بأقدم معدة عسكرية هجومية وهي عبارة عن برج خشبي يسير على عجل يستعمله الجنود في الصعود من خلاله واقتحام القلعة تحت غطاء من وابل من سهام الجنود المصريين البواسل، وباقتحام القلعة يتم السيطرة على الأعداء، ونرى زعيمهم يقوم من شدة الغضب بكسر قوسه وسهامه بقدمه، وآخر ينزع شعر رأسه من الغيظ. ووسط وطيس المعركة، لا تجد امرأة أو طفلا مصابا، بل نجد جنديا مصريا يحمل طفلا على كتفه لإنقاذه.

خرج جيش مصر لينفذ مهامه ويعود إلى ثكناته، وكان على قائده (وني) الذي تحدثنا عنه من قبل أن يقدم تقريره للملك، فماذا قال؟ كتب (وني) يقول: أدى الجيش مهمته ولم يحرق زرعا أو يقتل طفلا أو امرأة أو شيخا، ولأن كل شيء كان منظما لم يسلب جندي حذاء ليس له؟! الجيش المصري له جذور وأصول، ولمن لا يعرف فليقرأ التاريخ...