جدة في كتاب

TT

وسط زحام الأخبار الكئيبة المتلاحقة التي تصل إليك أينما كنت؛ على جهازك المحمول وجهاز تليفونك، بشتى الوسائل تلاحقك.. كلها أخبار مضطربة تخيف وتقلق وترعب وتطير النوم من الجفون.. وسط كل ذلك الأمر يكون البحث عن مهرب لتغيير المزاج وتغيير الأجواء مسألة في غاية الصعوبة، ولكنني منذ أيام وصل إلي كتاب ممتع أخذني في الحال إلى ماض جميل وليس بالبعيد، عن مدينتي جدة.

الكتاب اسمه «جدة داخل السور» بقلم محمد درويش رقام الذي قدم عنوانا فرعيا واصفا فيه كتابه بأنها «ذكرياتي». وقدم للكتاب الكاتب المعروف عبد الله فراج الشريف. والكتاب رحلة ممتعة لمدينة قديمة تجاوز عمرها 1400 سنة، وهي التي دشنها الخليفة الراشد الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وإن كان المؤرخون يؤكدون قدمها قبل هذا التاريخ الذي أعلنه سيدنا عثمان بن عفان كمدينة تكون بوابة للحرمين الشريفين.

احتوى الكتاب على قراءة تفصيلية عن المدينة، وأمم ساكنيها خلف السور الذي كان يحيط المدينة بأبوابها المعروفة؛ مثل باب مكة، وباب شريف، وباب جديد، وحاراتها الأربع؛ حارة اليمن، وحارة الشام، وحارة البحر، وحارة المظلوم، وعن التنوع الأخاذ في التركيبة السكانية لها ومهن ساكنيها وعاداتهم وتقسيمة حاراتهم بحسب النمط الاقتصادي، وطبيعة المهن وأسلوبها. وكذلك عن وجود الجاليات المقيمة والمنسجمة مع باقي الناس، وهم الآتون من شرق الأرض ومن غربها، بشكل جمالي أخاذ انعكس على الأسلوب المعماري للمدينة، وعلى مائدة الطعام، وعلى أسلوب وتصميم الملابس، وعلى العادات والتقاليد.

الكتاب يسرد تاريخا «عمليا» للأسر، والمصاهرات، والمناصب، والتعليم، والسفر، بشكل مبسط، ولكنه شيق ينقل القارئ بخفة عبر صفحاته إلى ماض قديم وجميل. ويفصل الكتاب بشكل أخاذ عن مهن انقرضت وأسر اندثرت، ويبين أهم المراكز التسويقية بالمفهوم القديم، وأهم الفنادق، وأهم دور الاقتصاد، وموظفي الحكومة، وطبيعة الوظائف ونوعيتها، وتوسع الأعمال الحرفية بمختلف أشكالها بشكل لا يمكن تصوره في أوساط الشباب الحالي اليوم.

ويسرد بشكل لطيف أهم النواحي الاجتماعية، وكيف يتم قضاء وقت الفراغ بين اللعب والقهوة والغناء والجمعات والمجالس، ودور «الكبير» في الحي كمصلح اجتماعي وقاضي حوائج للغير ومستشار عام لشؤون الناس. ويشرح الكتاب بعمق علمي دور جدة بصفتها مدينة وهمزة وصل بين مناطق أخرى، والهجرات التي أتت إليها واستقرت فيها، والإضافات التي حدثت نتاج كل ذلك الأمر.

الكتاب عموما كان رحلة ممتعة ورائعة، ومصورا بشكل شخصي للوقائع والأحداث والشخصيات، مما يجعل الكتاب واقعا وأثرا شخصيا خاصا لا يمكن الاستهانة به والإقلال منه.. ولكنه مجهود جميل في ظل شح عظيم لتاريخ يسرد مدينة بأهمية جدة التي يقصدها الملايين سنويا، ولكنهم لا يعرفون عنها ما يكفي.

هناك «شح» واضح في الكتابة التاريخية عن المدن السعودية، وغير معروف السبب، ولذلك ما إن يصدر كتاب يقدم بعض الشيء مما يروي الظمأ، فإنه يعتبر بمثابة إنجاز طال انتظاره.

استمتعت بقراءة الكتاب، وشهيتي مفتوحة لقراءة المزيد عن الموضوع أو ما يشابهه، ولكن أعلم تماما أن المزيد غير موجود، ولا أملك سوى الانتظار؛ فلعل وعسى.

جدة مدينة للتاريخ وللمستقبل، ولكنها بحاجة لأن يحكى عنها، فتاريخها يستحق أن يروى.