الفرحة والحرية

TT

صديق قديم لنا يعمل أستاذا في إحدى الجامعات الأميركية، كثرت خلافاته مع صديقته الأميركية. وعندما سألتها عن السبب قالت: هو ليس شخصا فرحا.

فهمت ما تقصده على الفور، كيف لشخص غير فرح أن يحب شيئا أو أحدا. هناك قدر ثابت من الفرحة بداخل كل كائن حي، علاقتنا بالآخرين تنعش هذه الفرحة وتزيد من مساحتها. فرحة الإنسان إذن سابقة على علاقة البشر بعضهم ببعض، وفي غيابها تسوء علاقة الناس، ويضعف إنتاجهم وقد يختفي. أي تغيب حريتهم. لقد قلت لك من قبل إن الحرية هي الإنتاج، وربما أكون أخطأت في استخدام كلمة لا تستخدم إلا في مجال الاقتصاد، وقد تستخدم بكثرة عند الشعوب العاجزة عن الإنتاج.

قد تفهمني أكثر عندما أستخدم كلمة الإنجاز بوصفه المنتج النهائي للحرية. ولهؤلاء الذين يحلمون طول الوقت بالوصول إلى السعادة، أذكر لهم كلمة «شوبنهور» من أن الدنيا ليست محلا للسعادة بل للإنجاز. وأن المتاح لنا فقط هو الاستمتاع بلحظات حلوة عقب كل إنجاز. جميل.. ألا يعني ذلك أن المزيد من الاستمتاع بهذه اللحظات الحلوة، يتطلب عدم التوقف عن الإنجاز. أريدك أن تلاحظ أن هذه الفرحة ليست قاصرة على البشر، لاحظ حيوانات الغابة وهي تستمتع بوقتها، ليس مطلوبا من الأسود والأشبال أن تنجز شيئا، لذلك هي تكتفي بهذه الفرحة، والآن لاحظ السلوك والتقاليد الصارمة في مملكة النمل والنحل، من المستحيل أن يحدث ذلك في غياب رغبة قوية غريزية في تأدية عملها. هذه الرغبة القوية، أسميها، الفرحة بالحياة، وهي أيضا ما نعنيه بكلمة الحرية.

وعندما يقول جان جاك روسو: «عش وفقا للطبيعة».. فهو لا يدعو للبقاء في المنطقة الحيوانية، بل لتخطيها بشكل طبيعي أيضا، هو لا يدعو لاختيار زمن قديم جدا من حياة البشر للعيش فيه، بل يدعو لإدراك المتغير في الطبيعة واستيعابه واحترام قوانينه، بعكس ما يتهمه به فولتير: «لا أوافق على آراء روسو.. لا أريد السير على أربع، فقد عشت هذه التجربة في طفولتي ولا أريد أن أكررها».

بالطبع لا روسو ولا أحد آخر طلب منا العودة للسير على أربع، لقد تخطينا هذه المرحلة، ولكن كلمة «وفقا للطبيعة»، تعني أن نكون جزءا من نظامها، فالشمس ستشرق في موعدها من الشرق إلى ما شاء الله، ولكن حضرتك ستفتح دكانك وتذهب لعملك بعد دوام الشمس بساعات طويلة. حضرتك موجود خارج نظام الطبيعة، أنت تعيش في نظام مختل من اختراعك أنت، أقصد لا نظام تفقد فيه حريتك وتسمح فيه للعبودية بالزحف على حياتك كلها.

وهذا أمر طبيعي بالنسبة لشخص أو أشخاص لم يدركوا بعد أهمية احترام الوقت من أجل قدرة أكثر على الإنجاز.. لا تنجز شيئا، ولكنك ستصرخ طول الوقت طالبا الحرية، والعيش والكرامة الإنسانية، وكأن الملائكة أو العفاريت ستنزل عليك من السماء أو تطلع لك من تحت الأرض لتعطيها لك لسواد عيونك، أو لأنهم يوزعونها على الكسالى مجانا.. الكسالى الأبطال الذين تتآمر عليهم الدنيا كلها.