سوريا تدوخ العالم!

TT

كانوا يتحدثون عن الاستعصاء الإسلامي أو العربي على الديمقراطية. والآن نحن بمواجهة مشكل آخر لا يقل مرارة: هو استعصاء الحالة السورية على الحل! كان الجنرال ديغول يقول ما معناه: متى يفهم الفرنسيون أن هناك مشاكل لا حل لها؟! نقول ذلك على الرغم من أنه كان أكبر حلال مشاكل في التاريخ أو من أكبرهم.. فقد أنقذ فرنسا مرتين: المرة الأولى من جحيم الحرب العالمية الثانية، والمرة الثانية من براثن الحرب الجزائرية التي لم تكن تقل خطورة. وكاد الجناح الاستعماري المتطرف والمتشبث بمقولة الجزائر الفرنسية أن يغتاله أكثر من مرة بسبب ذلك. وقد واجه عندئذ أخطر مشكلة في حياته.. فالحرب العالمية الثانية لم ترعبه بقدر ما أرعبته مشكلة الجزائر. والسبب هو أنه في الحالة الأولى كان في مواجهة عدو خارجي، أما في الحالة الثانية فقد أصبح في مواجهة عدو داخلي. ومعلوم أن الحرب مع الذات من أخطر أنواع الحروب إن لم تكن أخطرها بإطلاق.. فالعدو يصبح عندئذ منك وفيك. ومع ذلك فقد خاطر ديغول بنفسه وواجه «منظمة الجيش السري» التي لم تكن تقل خطورة عن «القاعدة» من حيث التطرف الشوفيني والتعصب الأعمى. وعندئذ أنقذ فرنسا من نفسها وهو أعظم أنواع الإنقاذ. عندئذ انتصرت فرنسا على شياطينها الداخلية وهو أعظم أنواع الانتصار. شيء مشابه حصل في مصر أخيرا.. فهو ككل قائد تاريخي ورؤيوي بعيد المدى عرف أن حركة التاريخ أصبحت ضد استمرارية الاستعمار، وأن مصلحة فرنسا أن تخرج من مستنقع الحرب الجزائرية بأسرع وقت ممكن. وأصلا لولا وجود قائد في حجمه على رأس الدولة الفرنسية آنذاك لكانت المشكلة الجزائرية قد قتلت فرنسا. وربما ما قامت لها قائمة بعدئذ.

قد تقولون: وأين هو «ديغول السوري» الذي يستطيع أن يخرج البلاد من كارثتها التي توشك أن تقضي عليها؟ وأعترف بأمانة أني لا أراه يظهر حتى الآن. لا شك في أن هناك شخصيات محترمة هنا وهناك، ولكنها ليست على مستوى أخطر محنة في تاريخ سوريا. ربما كانت المشكلة أكبر منا جميعا. وهذا هو رأيي الشخصي. وهنا ألتقي بكلام ديغول بأن هناك مشاكل لا حل لها. لم يكن يقصد أنه لا حل لها بإطلاق.. «فالمستحيل ليس فرنسيا» كما يقول المثل الفرنسي. وإنما كان يقصد أنها من الضخامة والتعقيد بحيث أنه يتعذر حلها في المدى المنظور. وهذا يعني أن الظروف لم تنضج بعد لكي تحل. لكي تصبح المشكلة قابلة للحل ينبغي أن تتوفر الظروف المهيأة لذلك. وهذا ما يؤكده الفيلسوف كانط عندما كان يقول: لا يمكن أن يظهر أي شيء في التاريخ إلا بعد أن تتوفر إمكانات وجوده وتنضج.. فمثلا أراهن على أن الظروف الموضوعية لتحقق الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي ككل لم تتوفر حتى الآن. ولذلك فكل كلامنا عن الديمقراطية هراء في هراء، أو مجرد تمنيات وأضغاث أحلام في أحسن الأحوال، هذا إن لم يكن مزايدات وشعارات. لم أصادف حتى الآن أي شخص ديمقراطي في العالم العربي! أبالغ قليلا.. ولكن كيف يمكن أن نكون ديمقراطيين إذا كانت ثقافتنا وتربيتنا غير ديمقراطية؟ يكفي أن تختلف مع أحدهم بشأن القضايا الدينية أو السياسية لكي يحقد عليك إلى الأبد. أين هي العقلية الديمقراطية؟ أكاد أقول إنها ترف لا تقدر عليه إلا الدول المتقدمة جدا. لهذا السبب تهرب الأدمغة من عالمنا الإسلامي لكي تتنفس هواء الحرية في الخارج. وهذا ما كان يفعله فلاسفة أوروبا في القرون السابقة.. كلهم كانوا منفيين، مطاردين، من مكان إلى مكان. انظروا حياة ديكارت أو جان جاك روسو أو فولتير أو فيكتور هيغو أو عشرات غيرهم.. ولكن هل لولا معاناتهم وتضحياتهم كانت ستتحقق الديمقراطية عندهم؟ لقد مهدوا الطريق لشعوبهم فكان أن انفجرت بانتفاضات تنويرية وتحريرية رائعة. هنا نلمس لمس اليد تلك العلاقة الجدلية الخلاقة بين الفكر والسياسة بالمعنى النبيل والعالي للكلمة. في البدء كانت الكلمة. ولكن الكلمة العربية صدئت وعلاها الغبار. لماذا نستغرب إذن فشل الربيع العربي؟

لكن لنعد إلى مشكلتنا المحورية. إذا لم يكن هناك أي قائد سوري قادر على حل المشكلة الوطنية فماذا نفعل؟ نعرض حالتنا على أطباء العالم؟ وهذا ما يحصل حاليا. فقد أصبحت المشكلة السورية على كل شفة ولسان أخيرا. وهذا بحد ذاته تقدم كبير وقد يرهص بالحل الوشيك. من يعلم؟ ربما يبزغ الفجر أخيرا، فجر الخلاص. اشتدي أزمة تنفرجي!

الشيء الذي يشغل بالي هو التالي: ما هو الحل الذي يحلم به الغرب ويخطط له؟ هذا هو السؤال الأساسي والباقي تفاصيل. فمن الواضح أنه هو الذي سيحسم المشكلة في نهاية المطاف وليس الجامعة العربية! هل يريد الإبقاء على سوريا موحدة أم أنه يريد حلا على الطريقة اليوغوسلافية أو التشيكوسلافية؟ هنا أيضا ظهرت دولتان على أنقاض دولة واحدة. أعتقد شخصيا أن الفلسفة السياسية التي توجه الغرب حاليا تميل إلى تقسيم المشكلة المعقدة إلى عناصرها الأولية بغية تسهيل حلها. وهذا أول مبدأ من مبادئ الفلسفة الديكارتية. وقد يريد الإبقاء على إطار الدولة السورية العام ولكن بعد منح بعض الاستقلالية الذاتية لبعض الأقاليم. وعندئذ يكون الحل فيدراليا بدلا من التقسيم. أرجح ذلك من دون أن أكون متأكدا منه. لا أعرف كيف سيكون الحل بالضبط. إني أتخبط في تقديراتي وتخميناتي. وأعترف بأني عاجز عن حل المشكلة السورية، بل هي التي أوشكت أن تحلني!