التكفيريون ماضيا وحاضرا

TT

يجب التنبيه إلى أن النعوت السلبية كانت في تاريخ الاختلاف السياسي - أساس الاختلاف العقدي - ممارسة عادية أو تكاد تكون كذلك كما نقول في لغتنا اليوم. وإذن فقد كان التكفير حكما يطال كل مخالف في الرأي ومغاير في الفهم أو التأويل لما يقول به صاحب الحكم بالتكفير، والحال أن صحيح الحديث النبوي لا يكتفي فقط بتأثيم الحكم بالكفر على من ينطق بالشهادتين بل إنه ينسب صاحب الحكم إلى الكفر الصريح. ونحن لو رجعنا إلى ما كتبه أهل العقل والإنصاف فنحن نجد أنهم يقيمون تمييزا واضحا بين الخطأ والكفر. فأما الخطأ فمصدره الالتباس أو عدم الفهم، وأما الكفر فإن له علامات واضحة (إنكار الوحدانية والوحي والنبوة وما كان متصلا بالإيمان جملة). يجمع الصواب بين الكافر والمؤمن معا في حين أن الإيمان أو عدم الإيمان بدين أو مجموعة من القيم يفرق بينهما. وفي هذا المعنى يقرر الشهرستاني قاعدة بسيطة وواضحة فيقول: «التصويب حكم عقلي والتكفير حكم شرعي»، إذ إن كلا منهما ينتمي إلى مرجعية مغايرة للمرجعية التي ينتمي إليها الآخر. وفي هذا المعنى وعنفوان المعارك الآيديولوجية تغدو كل الأسلحة مباحة - وفي تاريخ الإسلام جعل المتخاصمون من التكفير سلاحا يستسهلون إشهاره كل في وجه الخصم. أما عموم المؤمنين في المجتمع المسلم من البسطاء الذين لا يطيقون التمييز بين الفروق المذهبية والدقائق الفقهية فقد كانوا، في الأغلب الأعم، أشد ما يكونون إسراعا إلى تصديق كل من توسل في مخاطبتهم باسم الدين. لذلك يصح القول أيضا إن تاريخنا الإسلامي، من حيث هو تاريخ صراع سياسي من أجل امتلاك السلطة السياسية، كان تاريخ تكفير وإقصاء: تكفير للخصم، من جهة أولى، وإقصاء له من دائرة الجماعة الإسلامية من جهة ثانية. لنقل، في عبارة أخرى، إن الحكم بالتكفير على مذهب أو على شخص أو مجموعة أشخاص، هو حكم بالإبادة السياسية على المجموعة أو الشخص. نعم، كان هناك في تاريخ الإسلام منصفون من الفقهاء ومن مؤرخي المذاهب والفرق كانوا حريصين ما وسعهم ذلك على التمييز بين التفسيق والتبديع والتكفير في إصدار الأحكام الشرعية، وبالتالي فقد كانوا يأخذون بتصنيف تتعدد فيه الاتجاهات ويكون الابتعاد عن القسمة الثنائية (المؤمنون/الكافرون) التي يسهل بها الوقوع في المحظور الشرعي (تكفير الناطق بالشهادتين) ولكن الواقع أنهم كانوا قلة - ولكن الغالب على ذلك التاريخ أنه كان غير دلك، فقد كان أخذا بالقسمة الثنائية المشار إليها. كانت النوازع والأهواء والرضوخ لعسف المالكين الفعليين للسلطة السياسية دواعي متعددة تحمل على ذلك. ما نود أن نخلص إليه هو أن «التكفير» قد كان في تاريخنا الفكري في الإسلام حكما آيديولوجيا، أولا وأساسا، قبل أن يكون حكما شرعيا. لنذهب في التعبير عما نريد أن نقوله خطوة أخرى فنقول إن التوسل بالشرع كان يتم، أحايين كثيرة، من أجل خدمة أهداف ربما لم يكن الشرع مقرا لها بالضرورة. علينا أن نستحضر دوما أن الوظيفة الأساسية للآيديولوجية هي إضفاء الشرعية على وضع يكون مفتقرا للشرعية بل لعله يكون في تعارض وتناف تامين معها. كما أن الوظيفة الأخرى للآيديولوجية هي التبرير للقسمة التي تجعل المتخاصمين في فريقين اثنين أحدهما على حق والآخر يغرق في الظلم والخطأ معا.

لا يملك المنشغل بالفكر السياسي الإسلامي في الأزمنة الحديثة والمعاصرة إغفال الملاحظة التالية البادية للعيان، قضية غياب المنحى التكفيري أو تأخره في الظهور حتى ستينات القرن الماضي. ومن المنطقي أن السؤال الذي يفرض نفسه على الباحث هو التالي: لماذا كان الأمر كذلك ولم يكن على النحو المغاير؟ ننظر في الفكر العربي في المرحلة التي نتواضع على نعتها بعصر النهضة ونتصفح أفكار زعماء الفكر الإسلامي على اختلاف مذاهبهم وتباين نزعاتهم فنجد انشغالا بقضايا الإصلاح والدعوة إلى الاجتهاد في الدين، ونقف عند مختلف الأفكار التي جاءوا بها فنجد أن مدارها قضايا الإصلاح جملة وتفصيلا، إصلاح النظم التعليمية، والاجتماعية، والمالية، والقضائية، والإدارية. ونتمعن في جملة ما عرضوا له من أسباب الضعف والتأخر التي كان عليها المسلمون في المرحلة التي كانوا شهودا عليها فنجد نقدا لاذعا وقولا كثيرا في تنكب المسلمين سبيل المحجة البيضاء التي كان عليها المسلمون في زمان عزهم ومجدهم، وربما كان النقد لاذعا غير أننا لا نجد إشارة إلى الكفر والتكفير وإنما هو انشغال بقضايا الإصلاح وشروطه وبوجوب النظر إلى الغرب مع التمييز بين ما يمكن اقتباسه من ذلك الغرب وما لا يجوز اقتباسه والأخذ به.

لماذا خلا الفكر الإسلامي في عصر النهضة من المنحى التكفيري، جملة وتفصيلا، ولماذا أخذت النزعات التكفيرية في الظهور مع ستينات القرن المنصرم؟

نحسب أن جوابا أولا ممكنا يكمن في سؤال آخر ربما يتم إغفاله: ما الظروف التي سمحت بانبثاق الفكر التكفيري في العالم العربي في الشطر الثاني من القرن الماضي؟

لعل السبيل إلى الجواب المنطقي والمقبول يقوم في الأسباب التي دفعت إلى إقصاء جماعات كبيرة من الناس من الحياة السياسية من جهة أولى كما أنه يقوم في معرفة جملة الشروط التي جعلت من الغلو الديني ملجأ وجد فيه أولئك الناس ما كانوا يفتقدونه في الحياة السياسية الطبيعية المتعثرة.

الرأي عندي أن جملة الأسباب المشار إليها هي التي أعلنت الميلاد الفعلي لحركات «الإسلام السياسي» من جانب أول ونفخت روح الحياة في المنحى التكفيري بعد إذ اندثر في الفكر السياسي في الإسلام. هو نكوص وارتداد يجدان تفسيرهما في الإقصاء وفي الاستبداد في الصورة التي أفرزتها أنظمة سياسية في القرن العشرين.