رهان أوباما «الانقلابي»

TT

يوم أخضع الرئيس الأميركي باراك أوباما قرار توجيه ضربته العسكرية المتوقعة على أهداف سورية إلى موافقة مسبقة من الكونغرس الأميركي، كثرت التأويلات الإعلامية للتأجيل إلى حد ذهاب البعض إلى افتراض أنه يأمل من الكونغرس موقفا مماثلا لموقف مجلس العموم البريطاني يعفيه، شخصيا، من مسؤولية التراجع عن الضربة العسكرية.

ولكن، رغم ما يبدو من تردد في مواقف أوباما حيال المأساة السورية، توحي حملته الراهنة لحشد دعم دولي لقراره بأن خيار العودة إلى الكونغرس أملاه حرصه على ألا يُتهم، شخصيا، بـ«الانقلاب» على قناعاته السياسية - وهي قناعات لمح إليها بإشارته، في خطاب تأجيل الضربة العسكرية المحتملة، إلى كون الأميركيين اختاروه رئيسا كي ينهي مسلسل التدخلات العسكرية في الخارج، لا استئنافها، وخصوصا في الشرق الأوسط.

سواء كانت تلك نية أوباما الدفينة أم لم تكن، تظهر ردود الفعل الحزبية في الولايات المتحدة على دعوته لمواجهة حازمة مع النظام السوري في أعقاب استعماله السلاح الكيماوي ضد شعبه، أن قراره لم يكن قفزة في المجهول بقدر ما كان موقفا قائما على معطيات يستبعد ألا تكون محسوبة وأبرزها:

- رغبة الرئاسة الأميركية في تنفيذ الضربة العسكرية الموعودة بتفويض «ثنائي»، أي بموافقة من الحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري». و«غريزة» أوباما السياسية، على هذا الصعيد، منطقية كونها تعزز تأييد الشارع الأميركي لقراره.

- قدرة الإدارة الأميركية على احتساب أصوات الكونغرس بمقاربة أدق من طريقة رئيس الحكومة البريطانية، ديفيد كاميرون، في احتساب أعداد مؤيدي التدخل العسكري ومعارضيه في مجلس العموم البريطاني، خصوصا بعد اللقاءات التي أجراها أوباما مع مسؤولي الحزبين الأميركيين الرئيسين وبعد تعهده بضربة محدودة، في الزمان والمكان، لا ترقى إلى مستوى التدخل العسكري البري، وبعد حملته الإعلامية المركزة على مخاطر استعمال الأسلحة الكيماوية، وتأكيد وزير خارجيته، جون كيري، مسؤولية النظام السوري في استعمال هذا السلاح في قصف الغوطتين.

- سوابق الكونغرس الأميركي في الاصطفاف وراء رئيس البلاد في أي تصويت على قرار تدخل عسكري في الخارج، فرغم أن الرئيس أوباما يملك سلطة قانونية واسعة تخوله القيام بعمل عسكري من دون العودة إلى الكونغرس، تعلم إدارته أنه لم يسبق للكونغرس أن عارض طلب تدخل عسكري واحد في الخارج من قبل أي رئيس كان، منذ إقرار «قانون الحرب» عام 1973. فعلى سبيل المثال، حظي كل من جورج بوش الأب وجورج بوش الابن بموافقة مسبقة من الكونغرس على تدخلهما العسكري في العراق - الأول عام 1990 والثاني عام 2003 – هذا مع العلم أن معظم الرؤساء الأميركيين لم يتجشموا عناء «استشارة» الكونغرس قبل توجيه ضرباتهم العسكرية في الخارج.

- وإذا كان قرار العودة إلى الكونغرس يعطي تعامل الرئيس أوباما مع الأزمة السورية مصداقية إضافية عبر إخضاعها لآلية اللعبة الديمقراطية، فهو قبل ذلك يواجه ممثلي الشعب الأميركي في الكونغرس بخيار استراتيجي أساسي هو تحديد دور الولايات المتحدة في عالم اليوم: فإما أن تعود لاعبا أساسيا على ساحته أو تبقى لاعبا «متقاعدا» يتلو فعل الندامة على مغامرتي العراق وأفغانستان. وهذا الخيار تحتمه اليوم ضرورة تدارك سمعة الولايات المتحدة المتردية دوليا، خصوصا في تعاملها مع أزمة تحاول موسكو من خلالها اختبار استعداد الأميركيين للعودة إلى ممارسة دور الدولة العظمى بعد مرحلة تقوقع طغى عليها هاجس تجنب المغامرات الخارجية.

في ظل ما تلمسه الإدارة الأميركية من تحدٍ روسي - إيراني غير مسبوق لنفوذها في الشرق الأوسط، قد يصح إدراج حرص الرئيس أوباما على موقف من الكونغرس يؤيد التدخل العسكري في سوريا في خانة تبرير «انقلابه» على قناعاته السياسية السابقة بعد أن تسببت في تشكيك واسع في موقع الولايات المتحدة في عالم اليوم.