بشار الروسي.. وبوتين السوري

TT

في محاولة خجولة من جانب أهل الحكم الروسي لتبديد مشاعر الدهشة إزاء موقف الرئيس بوتين من الموضوع السوري وكيف أن هذا الموقف غير مرحب به من حلقات في الطيف السوري الملتف حول الرئيس بشار الأسد، سرب أوساط الحكم معلومات مفادها أنه جرى وقف تصدير صواريخ وطائرات إلى سوريا. والقول إنه موقف غير مرحب به لأنه في ظاهره لمصلحة سوريا إلا أنه في حقيقة الأمر متاجرة بالمصير السوري، فضلا عن أن هذا الموقف يطيل المحنة السورية بما تسجله أيامها ساعة بعد ساعة من ويلات وتدمير وقتل وتهجير.

كما أن الموقف غير مرحب به من جانب الطيف السوري بمختلف تشكيلاته وانتماءاته المنتفض على النظام، لأنه عمليا مشاركة للنظام في أعمال القتل والتدمير ليس فقط لأن المدفع روسي والصاروخ روسي والطائرة روسية والذخيرة على أنواعها روسية، وإنما لأن حكم بوتين غير مكترث بكل هذه الويلات فلا يعترض في الحد الأدنى على استعمال قوات النظام لكل أنواع الأسلحة التي في الأصل لم تسدد أثمانها بالكامل والتي لم تزود مصانع السلاح الروسي على مدى سنوات النظام السوري بها لكي يستعملها ضد الشعب في مواجهات تستوجب معالجة عسكرية غير تلك التي تتواصل للسنة الثالثة على التوالي.

كما أن الموقف الروسي غير مرحب به عربيا لأنه في بعض جوانبه متاجرة بالدم السوري لتحقيق مكاسب على الأرض. وبدل أن يسجل بوتين وقفة إيجابية تخفف من أهوال المحنة نراه يعتمد مختلف أنواع المكائد والإصرار على استعمال «فيتو» لا يستفيد منه النظام لأنه سيزيده عنادا وإكثارا من الخطأ، كما إنه إرباك لمسعى التسوية السياسية لأنه يضيف تعقيدا إلى الكم الهائل من التعقيدات. هذا إلى أن الموقف الروسي جعل العرب المحافظين يعاودون التفكير في إغلاق بوابات الانفتاح على روسيا. وكان في استطاعة بوتين تليين الموقف بعض الشيء وبذلك لا يحرج الصين التي تميل ضمنا إلى الموقف المرن لكنها تحسب الحساب للمزايدة الروسية.

وللحيثيات نفسها فإن الموقف الروسي استمر غير موضع ترحيب معظم الدول والشعوب الإسلامية عدا إيران النظام مقابل انزعاج نسبة عالية من الطيف الإصلاحي الذي تمثله ملايين الأصوات التي اقترعت لمصلحة ترئيس حسن روحاني خلفا للرئيس محمود أحمدي نجاد.

طوال أكثر من سنتين حافلتين باستعمال نظام بشار الأسد معظم أنواع السلاح الروسي في تعامله مع الانتفاضة، كانت روسيا بوتين بسكوتها وتفسيرات غير نزيهة القصد من جانب وزير خارجيتها سيرغي لافروف متفرجة ومشجعة ضمنا، مع أنه كان على الرئيس بوتين أن يشترط، خصوصا خلال الزيارة التاريخية للرئيس بشار إلى روسيا قبل ثمانية أعوام، تحريم استعمال أنواع عدة من الأسلحة ضد الشعب السوري مهما استوجبت الظروف ذلك والتعامل مع حركات الاحتجاج المتوقعة نتيجة تغليب العلاج الأمني على الحوار بالخفيف من السلاح لا أكثر.. هذا إذا كان لا بد من ذلك. إلى أن حدثت واقعة السلاح الكيماوي التي ينطبق عليها اعتبار من يورده ومن يأمر باستعماله أو يعرف ولا يمنع أو يتقصد استعماله سيان من حيث مسؤولية إلحاق الأذى بالشعب. ووسط الضجيج الشامل عدا قلة من عرب ومسلمين وأجانب تحجرت قلوبهم فلم يذرفوا دمعة على منظر جثامين عشرات الأطفال والنساء وكبار السن الذين قضوا اختناقا من آثار السلاح الكيماوي الذي استعمل، بات لا بد من موقف أخلاقي وإن بنسبة بسيطة من جانب روسيا بوتين، فلا يلتزم الصمت أمام هذا المشهد المرعب الذي كان توأم منظر عشرات الأطفال والنساء الذين قضوا بفعل أحد صواريخ أميركا بوش الأب اخترق حتى ملجأ العامرية في بغداد المبني تحت الأرض من جانب خبراء فرنسيين ليكون الملاذ الواقي للناس في حال هجوم نووي، وأتى على مئات من الأرواح افترضت أنها ستنجو من الشر البوشي.

من هنا جاءت الاشتراطات الروسية والقول إن الاتهامات هراء ويجب أن تكشفوا عما لديكم من إثباتات. ولأنها اشتراطات تفتقد إلى الحس الإنساني ولكي لا يبدو بوتين أنه شريك في محنة تكابد منها سوريا بجناحيها، النظام ومن معه والمنتفضون عليه ومن يساعدهم، فإنه جرى تسريب معلومات مفادها أن روسيا أرجأت، وبعد خراب البصرة على نحو المثل الشائع، صواريخ أرض أرض من طراز «إسكندر»، كما أرجأت ولمدة ثلاثة أعوام تزويد النظام 12 طائرة مقاتلة ومنظومة الدفاع الجوي الصاروخية «S.300». وأما أسباب الإرجاء فإنها مادية وفنية على حد التبرير الروسي وليست لصحوة ضمير إنسانية. واللافت أن إرجاء التسليم في حال كانت المعلومات مؤكدة وليست مسربة لغرض في نفس بوتين يكون استباقا لقمة الثمانية الكبار التي يستضيفها بوتين وتلطيفا لموقف يفتقد إلى النزاهة يشمل تحديدا أنواع الأسلحة التدميرية بما في ذلك ربما السلاح الكيماوي، أي الأسلحة التي استعملت في المواجهة المجنونة منذ سنتين وبضعة أشهر.

وبالنسبة إلى الأسباب المادية ثمة مخاوف من أن تتحول أثمان هذه الصفقات المرجاة وغيرها من صفقات تتعلق بالذخيرة والصيانة إلى ديون لا أمل في أن يسددها نظام بشار الأسد لأن وضعه المالي في أسوأ حال ولأنه على مشارف الانصراف إسقاطا أو طوعا كما هو مستحسن وبعد خطاب اعتذاري المفردات واللهجة وليس كسائر خطبه في سنوات مضت. اعتذار من الشعب ومن أمته العربية التي آذرت القضية السورية طوال نصف قرن. وهو إذا انصرف فإن روسيا ستجد نفسها أنها ستكرر تقليص رقم الديون المتراكمة على سوريا بغرض استرضاء النظام الجديد علما بأنه لن يكون منفتحا على روسيا، أو اعتبار العلاقة مع سوريا الأسد بأنها كانت تجارة لا تنجي المتاجر الروسي بها من عذاب نار المحنة التي ذهب ضحية عناد نظام بشار أكثر من مائة ألف قتيل وأكثر من مائة ألف جريح وعدد كبير من المعاقين وبضعة ملايين من النازحين واللاجئين والتائهين.. هذا إلى إعادة سوريا كما العراق من قبل إلى مشارف العصر الحجري.

وتبقى في موضوع الديون الإشارة إلى أن روسيا بوتين وما غيرها ومن غيره ألغت نسبة من ديونها على سوريا عندما زارها الرئيس بشار في الأسبوع الأخير من شهر يناير (كانون الثاني) 2005 لكنها في الوقت نفسه زودته بالسلاح الذي استعمله لمواجهة انتفاضة كان من الممكن معالجتها بالحسنى. ولكنه العقل الذي أوجز الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أهميته بعبارة «ربي من وهبته العقل فماذا حرمته ومن حرمته العقل فماذا وهبته..».

والحديث يتواصل عن بشار الروسي وبوتين السوري.