«معلولا» وإطار الصراع في سوريا

TT

ما حدث في معلولا، ربما حدث في مدن سورية أخرى، أو هو يشبه ما حدث في بعض المدن، لكن بعض ما قيل كان مختلفا. قوات من الجيش الحر، دخلت المدينة بعد أن اجتاحت حاجزين لقوات النظام بالقرب من المدينة، كانا يتحكمان بخطوط المواصلات والنقل في المنطقة، ويتركان بصماتهما الثقيلة في حياة سكان المنطقة والمارين فيها، حيث كانت عناصرهما يمارسون عمليات الاعتقال والإذلال والابتزاز والتشبيح على المواطنين، ولا تسلم منهم ممتلكات الآخرين من السلب والانتهاك والسرقة، وبعد أن جالت قوات الجيش الحر في بعض أحياء المدينة في محاولة لإرسال تطمينات لسكانها بالأمان، انسحبت تجنبا لهجمات قوات النظام الجوية والمدفعية على المدينة وسكانها على نحو ما حدث في مدن أخرى، إذ يستغل النظام دخول الجيش الحر إلى أي مدينة أو قرية لقصفها وتدميرها تحت حجة مقاومة الجماعات الإرهابية والمتطرفة المسلحة وما إليها من تعابير.

وتكاد تتطابق محتويات رواية الجيش الحر مع الرواية التي تناقلتها معظم وسائل الإعلام العربية والغربية عما حدث في المدينة، وهي تتقاطع في قسمها الأول مع رواية تقدمها أوساط رسمية ومؤيدون للنظام وقلة من وسائل الإعلام، إذ هي أضافت للرواية بعض التفاصيل، أبرزها الادعاء أن قوات الجيش الحر، اعتدت على دور للعبادة ورموز دينية، واقتحمت بيوتا لسكان المدينة، واعتدت على بعض سكانها قبل أن تنسحب من المدينة.

وللاختلاف الأخير بين الروايتين أهمية كبيرة. يتجاوز فكرة تناقض الروايات والكذب فيها للقيام بوظائف أخرى أساسها تسعير حمى الطائفية والصراعات الدموية في سوريا، وهو سلوك درج عليه النظام، وقام المؤيدون والمنحبكجية به على أوسع نطاق، وروجت له بعض وسائل الإعلام.

ومعلولا مدينة صغيرة وقديمة في جبال القلمون القريبة من دمشق، ذات أكثرية مسيحية، وللمدينة قيمة تاريخية ودينية بالنسبة للسوريين وللعالم، إذ هي بين أقدم المدن وفيها بعض أقدم الآثار المسيحية في العالم، وما زال سكانها من المسيحيين والمسلمين يتكلمون السريانية القديمة، التي كان يتكلمها السيد المسيح. وعاش المسيحيون والمسلمون في معلولا، وغيرها من المدن والقرى المجاورة التي تماثلها طوال قرون، من دون أن يطغى أحدهم على الآخر، وهم في عيشهم تعاونوا وتفاعلوا كبشر ومواطنين، وأعطوا المنطقة طابعا حضاريا وثقافيا مميزا، قل وجود مثيله في العالم.

ونظرا لخصوصيات المدينة، جرى استغلال دخول الجيش الحر إليها لإشاعة الأنباء عن اعتداءات قام بها في المدينة، وهو ما نفته مصادر دينية بينها بيلاجيا سياف القيّمة على دير مار معلولا أبرز الأماكن المسيحية في المدينة، بخلاف تصريحات أخرى من خارجها، هي امتداد لمنهجية بدأها النظام ومؤيدوه منذ انطلاقة الثورة السورية بالقول، إن الثورة ذات طابع إسلامي متشدد، وإن القائمين بها يأخذون البلد إلى صراع ديني بين المسلمين والمسيحيين، وهي تتناغم مع إشاعتين جرى تعميمهما؛ الأولى، أن الصراع في سوريا صراع بين الطوائف بين المسلمين السنة والعلويين، والثانية، أنه صراع بين العرب والأكراد، بخلاف الطبيعة الأساسية للصراع باعتباره صراعا بين السلطة والأكثرية الشعبية من كل المكونات الدينية والمذهبية والقومية في سوريا.

وتطرح عملية دخول الجيش الحر إلى مدينة معلولا، فكرة الدخول إلى مدن وقرى سورية أخرى من قبل تشكيلات عسكرية سواء كانت تابعة للجيش الحر أو غيره، وعما إذا كانت هناك ضرورات استراتيجية تتعلق بالصراع مع النظام تفرض ذلك الدخول أو عدمه، وقد تكررت حالات الدخول من دون أي مبررات، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى التمركز داخل تلك المناطق من دون دواع منطقية، مما جعل تلك المناطق في جملة أهداف النظام فقصفها بالطائرات والدبابات والمدفعية وحولها إلى ساحات قتل ودمار، بدل أن تكون ملجأ وملاذا للمهجرين القادمين من بقية المناطق، فازدادت معاناة هؤلاء إضافة إلى معاناة سكان تلك المدن والقرى، وجرى استغلال النظام لعمليات الدخول في مناطق ذات هويات دينية أو مذهبية أو إثنية، بحيث أثار عوامل الفرقة والصراع بين سوريين، ليسوا في صف النظام، وهم في الغالب الأعم من مؤيدي الثورة وأنصارها على نحو ما حصل في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية ذات الوجود الكردي، وجرى استغلال ذلك من جانب النظام بتصوير سوريا وكأنها في أتون حرب أهلية.

إن ما حدث في معلولا، وما حدث مثله في السابق، يطرح ضرورة التفكير العملي والجدي من جانب الجيش الحر والتشكيلات العسكرية في أهداف مثل هذه العمليات وجدواها، لأن استمرارها، يمكن أن يأخذ العلاقات بين المكونات في الجماعة الوطنية إلى علاقات حذر متزايد، بل يمكن أن تتحول إلى علاقات صراع، كما أنها سوف تأخذ التشكيلات المسلحة والثورة إلى مواقف تناقض غاياتها، وهذا بعض ما يشتغل عليه النظام ومؤيدوه.