اللامنتمي ينتمي

TT

هذا ما حصل لزميلنا الأديب والشاعر العراقي فاضل السلطاني. فهو مثال من أمثلة الأدباء العرب اللامنتمين، ولكنه لقي صنوه في الشاعر الإنجليزي المعاصر فيليب لاركن فانتمى إليه إلى حد تأليف كتاب عنه صدر مؤخرا باللغة الإنجليزية باسم «فيليب لاركن – شاعر لا منتمٍ».

قد يتساءل القارئ لماذا يكلف شاعر عراقي نفسه في الكتابة عن شاعر أجنبي؟ هكذا بدأت حركة الشعر الحديث في الأدب العربي المعاصر، عندما انكب بدر شاكر السياب على دراسة شعر تي إس إليوت.

كثيرا ما تغتني الحضارات وتتطور بفضل ما تتلقاه من التلقيح الأجنبي. هكذا ازدهرت الحضارة الرومانية بما تلقته من الحضارة الإغريقية، واغتنت الحضارة الإغريقية بما تعلمته من حضارة بابل. وقامت الحضارة العربية على أكتاف من دخلوا في ظل الحكم العربي الإسلامي من الأعاجم.

لقد اعتدنا أن نذكر أفضال الأدب والفكر والفن الغربي علينا، ولكننا كثيرا ما ننسى مساهمات أدبائنا وفنانينا وعلمائنا في الحضارة الغربية المعاصرة. خذوا المعمارية العراقية زها حديد مثالا ناصعا لما أقول. أصبحت الآن أول امرأة تحتل الصدارة في فن العمارة العالمية وتبز سائر المعماريين من الرجال. وها هو فاضل السلطاني يقدم هذا الطرح الغني والفريد في أفكاره في دنيا الأدب الإنجليزي. وهي مساهمة مشكورة لعالم النقد الأدبي في الغرب تحمل في طياتها نكهات وأنفاسا جديدة من ذهنيات وأنفاس عالم الشرق الأوسط.

لا عجب في أن يلتفت السلطاني إلى صفة اللاانتماء في حياة وشعر وأفكار فيليب لاركن. فالانتماء هو المشكلة الكبرى التي يواجهها الأديب العربي المغترب، بل وأصبح اليوم يشاركه فيها حتى الأديب العربي المقيم في وطنه. من أين له أن ينسجم ويتعايش مع الإخوان المسلمين والإسلامويين؟ وكانت الوجودية والتغرب واللاانتمائية من الأفكار والفلسفات التي اجتاحت عالمنا العربي في الأربعينات والخمسينات. انقرضت الوجودية الآن وماتت بموت مؤسسها جان بول سارتر. بيد أن هذا الأديب العراقي أعاد الحياة إليها في معالجته لشعر الشاعر الإنجليزي. واتخذها منطلقا لأفكاره في كتابه هذا الجديد.

وفي اختياره الكتابة عن فيليب لاركن بالذات أراه يعبر عن شجون وضنون كثير من الأدباء المغتربين العرب، فالواحد منهم يعاني من الوحدة والتغرب والانفصال بشكل وجودي عن الآخرين، وقل الأخريات أيضا وبصورة خاصة، على نحو ما عبر عنه ذلك الشاعر. «الجحيم هو الآخرون» كما قال سارتر. وقد خصص فاضل السلطاني فصلا كاملا عن هلع واستنكار العلاقة الحميمية كما لاحت في أنظار لاركن وسجله في أشعاره بسخرية. وأعطانا المؤلف نماذج منها تعبر بعين الوقت عن ميل الشاعر إلى المفردات والعبارات العامية والحوشية التي لم يستسغها جمهور المتأدبين الإنجليز. وما العجب في أن لا ينتمي إليهم وهو الإنسان اللامنتمي. ويترامى وراء كل ذلك عنصر الحرمان الذي يبعث في نفسه التطلع للحرية والتحرر.