الحدث المفاجئ.. أزمة الرؤية أم أزمة المنهج؟!

TT

لكل حدث مخاتلته وغموضه، وإذا أخذنا أنموذج الهياج العربي الأخير ضمن الفرح والاغتباط بالمفاهيم التي تحولت إلى شعارات مثل الحرية والديمقراطية، فسنعثر على تهشم في أدوات القراءة التي يمارسونها باتجاه الحدث؛ إذ سرعان ما انضوت أسماء علمانية وليبرالية لتأييد الحدث المفاجئ والغامض والمباغت بذريعة التجرد والانتباه إلى أن الحرية ملك الجميع.

لم يكن هذا التأييد بدعة عربية؛ بل تقع أحيانا لدى أسماء لها قيمتها كما حدث مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي أيد الثورة الإيرانية، وحين تجلى له الوضع اعتزل الناس في شقته لفترة خجلا من الشامتين بموقفه؛ إذ كيف يؤيد حدثا أصوليا؟! كذلك الحال في المنطقة العربية؛ إذ كتب بعض المفكرين بعد الحدث مباشرة لتشخيص الحالة وتشجيعها، ومن هؤلاء المفكر اللبناني علي حرب في كتابه «ثورات القوة الناعمة في العالم العربي.. نحو تفكيك الديكتاتوريات والأصوليات» وذلك في عام 2011، وغاب عن ذهن حرب أن الأصوليات في زمن التركيب بتلك الفترة، لا في زمن التفكيك.

تصح هذه المواقف المباغتة على أدونيس وموقفه من الحدث العربي؛ إذ كان مشجعا له في تونس، ومعارضا له بعد في القاهرة، ومن هنا كان انتباهه الأولي؛ إذ تحدث إلى قناة «العربية» رافضا تشجيع أي ثورة تلبس لبوس الدين وأنه سيقف ضد أي ثورة تخرج من الجامع، متسائلا عن رموز الثورات من العلمانيين؛ لماذا لا يفتتحون أسئلة مغلقة كسؤال المرأة والدين والحرية، وتعجب من تحالف علمانيين مع رموز الأصولية. وهو بموقفه هذا يطرد ضمن سياق رؤيته الكلية؛ ذلك أنه حين فازت حماس في انتخابات 2006 قال إنه مع الديمقراطية التي جاءت بحماس لكنه ضدها لأن من واجبه – آنذاك - أن يحارب الدولة الدينية. هنا نعثر على اطراد في الموقف من الأصولية على عكس المعنى الذي طرحتْه كتابات بعض الخليجيين واتجاهاتهم؛ إذ أخذت خط التأييد المطلق، ومن ثم أخذت خط المعارضة المطلقة، وبين هؤلاء فئة تراوح بين المفهوم والشعار، وتحتار بين غموض الحدث تارة ووضوحه تارة أخرى.

ولنأخذ نماذج من تحولات الكتابة حول الأصولية والحدث العربي، بدرية البشر كتبت في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 مقالا يتضح من عنوانه «كل الطرق تؤدي إلى الإخوان المسلمين» جاء فيه: «إن كانت كل الطرق ستؤدي إلى الإخوان المسلمين فيا أهلا وسهلا بهم». ثم كتبت في 8 يوليو (تموز) 2013 مقالا بعنوان: «حفرة الإخوان التي وقعوا فيها» وجاء فيه: «الإخوان المسلمون لم يقبلوا بالانتخابات واللعبة الديمقراطية إلا عملا بفقه الضرورة، ففي الضرورات تباح المحرمات، فقد كان هذا هو الطريق الوحيد الذي سيمكنهم من السلطة بعد أن خاضوا حربا ثمانين عاما ولم يصلوا». هذا النموذج وقع فيه كثير من الكتاب.. الرأي ليس عيبا، لكن القصد هو نقص الاطراد ووحدة المنهج التحليلي للحدث. المسألة نفسها حدثت إبان انتخاب مرسي، فالذين باركوا له هم الذين انتقدوا مفهومه حول «الشرعية» وأيدوا التغيير، المشكلة في هذا التناقض تحديدا.

الكاتب عبد الله بن بجاد على العكس؛ فقد كان مطردا وواضحا في موقفه، وكان من أوائل من وعى الخطر الأصولي في الحدَث، وقد تحدث عن تجربة «غربة الموقف» في حوار على قناة «الحرة». وكان سليمان الهتلان، الأكاديمي السعودي، واضحا في تأييده لموقف ابن بجاد بعد أن كان الهتلان ضمن سياق الحدَث العربي وموجته في كتابه «الشارع يا فخامة الرئيس»، وهو تراجع علني يحسب للدكتور، على عكس الذين تراجعوا بصمت أو من دون أن يعلنوا عن خطأ موقفهم.

كان العارفون بخطر الوصول إلى الأصولية قلة، وبما أن ابن بجاد متابع لتحولات من كانوا يختلفون معه آنذاك وتحولهم نحو شجب الثورات بعد قصيد المديح الطويل، فقد كتب ابن بجاد في جريدة «الاتحاد» في 12 أغسطس (آب) 2013 مقالا بعنوان «الربيع الأصولي مرة بعد مرة» جاء فيها: «تراجع كثير من المثقفين عن أحلامهم الوردية تجاه ما كان يعرف بـ(الربيع العربي) الذي فشل فشلا ظاهرا، ولكن البعض لم يزل يصر بطريقة هي أقرب إلى العناد على أن ما جرى في جمهوريات العالم العربي هو ربيع شعاراته الحرية والديمقراطية، ولكن المتأمل للمشهد العربي بشكل شمولي وعام يكتشف أن العكس هو الصحيح.. أي ربيع ذلك الذي تطغى عليه الجماعات الأصولية والأولويات الأصولية ويكون الجميع مجبرا على التعامل معها، لأنها لم تعد حركات تتحرك على هوامش الدولة؛ بل صارت في مقدمة الحراك السياسي وتجاذبات مراكز القوى الدولية والإقليمية بكل ما يحمله خطابها من تخلف وكراهية واستبداد».

هذا الموقف ومثله لآخرين فضلاء كان قليلا؛ بل ونادرا.. من هنا يكون هذا التحليل صارما وينطلق من رسوخ الرؤية تجاه الحدث الغامض والمباغت.

في منتصف 2011 أجري مع الدكتور تركي الحمد لقاء على قناة «العربية»، قال: «الدين المؤدلج والمسيس هو في حالة انحسار، لو لاحظنا في تونس وفي مصر.. صحيح أنهم يشاركون، لكن لم يكن هناك آيديولوجيا إسلامية كما حصل في إيران.. هي القائدة، لم يكن هناك رجل مثل الخميني هو القائد.. كان هناك تعددية في الثورة، فبالتالي انحسار الإسلام المسيس بدأ قبل هذه الثورات؛ إذ وصل إلى قمته في الثمانينات والتسعينات، ثم بدأ بالانحسار بشكل معين.. لن يكون هو الآيديولوجيا السياسية الرئيسية التي تحرك».

بعد هذه القراءة تبدلت بالتأكيد تحليلات الحمد؛ إذ رأى الأصولية وهي تصل بقادتها إلى العروش، على النحو المشهود في تونس وليبيا ومصر وسواها.

في هذه الأيام أصبحنا أمام ظاهرة مثقف «منعرج اللوى» كما يعبر الباحث علي العميم، فالمشكلة أن هناك تزاحما على أسبقية الموقف.. ليست المسألة بحثا عن الأوائل والأواخر، لكن الأهم أن هذه الأحداث بزلزالها تكشف هشاشة البنى التحليلية التي نتورط بها كثيرا، فالحدث الكبير يحتاج إلى قراءة كبيرة.. التفاؤل الذي انتاب علي حرب مثلا جعله على «الطريقة الدلوزية» يبحث عن «مفاهيم جديدة» في الثورات مثل «الناشط» أو «الكائن الرقمي»، لكن سرعان ما تبين أن الحدث أنجب حالات تسيد البسطاء والجموع على المشهد، وانتشار السذاجة على حساب البحث عن فتح أسئلة جديدة راهنة حول كثير من الممنوعات أو المناطق الممتنعة عن المس.. هذه الأحداث لم تنتج مثل هذا الاشتغال بكل أسف.

* كاتب سعودي