أفضل الأعداء

TT

في السياسة دائما ما ينتصر السعي وراء السلطة على التقارب الآيديولوجي، ويبدو أن هذا هو السبب الرئيس للجولة الأخيرة من التوترات بين أقوى فصيلين إسلاميين في تركيا - الحكومة نفسها وحركة فتح الله كولن - وهي التوترات التي ظهرت على سطح الأحداث في منتصف أغسطس (آب) الماضي عندما نشرت الحركة ردا على ما وصفته بـ«اتهامات افترائية» ضدها.

ولم تكن معظم الادعاءات الأحد عشر التي تناولها البيان الصادر في الثالث عشر من أغسطس جديدة: أن زعيم الحركة، الذي يعيش في ولاية بنسلفانيا منذ 15 عاما، ضحية للولايات المتحدة والسياسات المؤيدة لإسرائيل والمناهضة لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، وأن أتباع الحركة قد تسللوا لمؤسسات الدولة التركية واستخدموا نفوذهم - ضمن أشياء أخرى - لمعارضة عملية السلام بين الأكراد والحكومة.

وثمة ادعاءات أخرى تبدو كأنها نظريات يحلم بها المتملقون لتحسين صورتهم في أعين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المصاب بجنون العظمة على نحو متزايد: مثل الادعاءات بأن الفيروس الذي أصاب الحاسبات الموجودة في مكتب أردوغان من تصميم الحركة، وأن الحركة كانت على وشك القبض على أردوغان في فبراير (شباط) 2012.

وهناك ثلاثة اتهامات لم يجرِ الحديث عنها على الملأ من قبل: الزعم بأن الحركة كانت مسؤولة عن الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد في يوليو (تموز) الماضي، وأن أتباعها في الشرطة والقضاء قد وقفوا في طريق اعتقال المتظاهرين ومحاكمتهم، وأن عناصر من الشرطة على علاقة بالحركة قد أججت الاحتجاجات عن طريق حرق خيام المتظاهرين واستخدام القوة المفرطة.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك تناقض واضح بين الشرطة التي قامت بحرق الخيام ثم فشلت بعد ذلك في القبض على المتظاهرين. وبالنسبة لقدري غورسل، وهو كاتب في صحيفة «ميليت» اليومية، فإن حقيقة شعور الحركة بالحاجة إلى الرد على تلك الادعاءات تعني أنها قد سمعت تلك الادعاءات مرارا وتكرارا في مناقشات خاصة مع الحكومة. وأضاف غورسل «إذا جرى التعبير عن هذه الادعاءات بالطريقة التي ظهرت في البيان، فهذا يشير إلى عداء متزايد في الدوائر الحكومية تجاه الحركة».

كانت الحركة منذ نشأتها في مطلع السبعينات من القرن الماضي أكثر حذرا في الحياة السياسية من الإسلاميين السياسيين الذين يعد أردوغان أحدث مظاهرهم. وبينما أعلن الإسلاميون السياسيون عن انتقادهم الصريح للنظام العلماني التركي، فضلت الحركة التحوط في رهاناتها. وقامت الحركة بتأييد (وجرت حمايتها عن طريق) قادة انقلاب عام 1980، وفعلت ما في وسعها للابتعاد عن الأنظار خلال الحملة الأمنية التي شنها الجيش على الإسلام السياسي عام 1997، وهي الحملة التي بدأت بالاستقالة القسرية لسلف أردوغان وشهدت اعتقال أردوغان لإلقائه قصيدة معادية للعلمانية.

ومن حيث الآيديولوجيا، فإن أوجه التشابه بين أردوغان وكولن أكثر من أوجه الاختلاف، حيث تحتوي كتابات كولن، مثلها في ذلك مثل خطابات أردوغان، على العديد من الإشارات إلى التاريخ الإسلامي القوي. كما يعلن الرجلان، وإن كان بصورة أقل أو أكثر صراحة، عن أن السبب وراء انهيار الإمبراطورية العثمانية هو الابتعاد عن الدين، وكلاهما يحلم بالنهضة الإسلامية. وبذلت الحركة جهودا أكثر من أي جهة أخرى، من خلال شبكة المدارس التابعة لها في جميع أنحاء تركيا والعالم، للحفاظ على الإيمان حيا في قلوب الأتراك ورعاية جيل جديد من الملتزمين وتربية الشباب على السلوك الأخلاقي القويم.

وعلاوة على ذلك، تعاون الرجلان في الناحية السياسية؛ فبعد سنوات من رفض تأييد أي حزب سياسي، قامت وسائل الإعلام القوية التابعة للحركة بدعم حكومة أردوغان إلى أقصى درجة ممكنة خلال الفترة التي سبقت الانتخابات العامة في 2007 والاستفتاء على تعديل الدستور عام 2011. ومن دون دعم الحركة ودعم المتعاطفين مع الحركة والمعروف على نطاق واسع مدى نفوذهم في محاكم السلطات الخاصة التي حاكمت عشرات من كبار ضباط الجيش على مدى السنوات الخمس الماضية.. من دون هذا الدعم ما كان أردوغان ليتمكن أبدا من كبح جماح الجيش.

ومع ذلك، ربما تكون هذه هي النقطة التي تنبع منها جميع المشكلات والمتاعب، حيث جرى تعزيز التحالف بين الحركة والحكومة بسبب كره كل منهما للجنرالات المتعجرفين الذين يدعمون الأجندة العلمانية ويحملون كرها عميقا لأي شيء يشتم منه رائحة الإسلام السياسي. والآن، أصبحت هيئة الأركان مليئة بمن جرى تعيينهم من قبل أردوغان ولم تعد تشكل تهديدا.

وجاءت أولى الإشارات الواضحة على احتمال تهاوي الأمور بين الحركة والحكومة في فبراير 2012، عندما أصدرت نيابة محاكم السلطات الخاصة أمرا باستدعاء خمسة مسؤولين بارزين في الاستخبارات الوطنية، بما في ذلك رئيس الاستخبارات الوطنية هاكان فيدان. وجاءت الاستدعاءات أثناء محادثات السلام مع الأكراد. وقال المدعون إنهم يريدون التحدث مع فيدان حول علاقته بالذراع المدنية لمجموعة من المتمردين الأكراد، غير أن كثيرين في وسائل الإعلام قالوا إن الأمر يتعلق بعمل تخريبي. ولم يخف على أي شخص أن فيدان قد عين في هذا المنصب من قبل أردوغان، وربما يكون هو أكثر شخصية يثق فيها رئيس الوزراء التركي.

وجاء رد فعل أردوغان سريعا، حيث أصدر البرلمان في غضون أيام قليلة تعديلا يمنع المحاكم من استجواب الشخصيات التي يعينها رئيس الوزراء، كما تحركت الحكومة لتقليص سلطات محاكم السلطات الخاصة. وكانت هناك شائعات على نطاق واسع بالإطاحة بالمسؤولين المتعاطفين مع الحركة في الشرطة والوزارات.

ثم بدأ السلام بين الحركة والحكومة يعود مرة أخرى، حيث أدلى أردوغان بتصريحات إيجابية عن كولن، وقام كولن بالشيء نفسه، واستمرت وسائل الإعلام الموالية لكولن في تأييد الحكومة. وعلاوة على ذلك، قامت الحركة بتأييد أردوغان - وهو ما يجعل المزاعم التي احتوى عليها بيان الثالث عشر من أغسطس غريبة للغاية - خلال احتجاجات يوليو. وفي حين قام عدد قليل للغاية من كتاب الأعمدة الليبراليين في الصحف الموالية لكولن بانتقاد الحكومة بسبب وحشيتها في التعامل مع المتظاهرين، كان التوجه العام للصحف والقنوات الإخبارية التابعة للحركة يربط بين الاضطرابات وجيل من الشباب حصلوا على كثير من الحرية، مشيرة إلى أنه يتعين على الحكومة والحركة أن تعملا معا من أجل تعليم هذا الجيل الأخلاق الحميدة.

ولعل الأمر الواضح للغاية من بيان الثالث عشر من أغسطس هو أن التوترات بين الحركة والحكومة لم تنته يوما من الأيام، وثمة العديد من الأسباب التي ترجح ذلك، فمن المعروف عن أردوغان أنه لا يغفر الإساءة، ولم يكن الدور الذي قامت به الحركة في الإطاحة بالمقربين منه سياسيا - إذا ما كان ذلك صحيحا - بالأمر الهين الذين يمكن نسيانه. وهناك أيضا تلميحات إلى أن أردوغان، الذي بات براغماتيا أكثر من أي وقت مضى، قد يلوم الحركة على العقوبات القضائية القاسية في أغسطس الماضي في نهاية محاكمة جماعية لضباط من الجيش (عشرات الضباط - من بينهم آخر رئيس أركان، الذي كان حليفا مرغما لرئيس الوزراء - والذين تلقوا أحكاما تصل في مجملها إلى 200 عام).

وعلاوة على ذلك، أدت الأحداث التي يشهدها الشرق الأوسط إلى توتر العلاقة بين الحركة والحكومة، ففي الوقت الذي يرى فيه أردوغان أن «الإخوان المسلمين» هم إخوة في الدم، كان كولن دائم الشك في «الإخوان المسلمين». وعلى الجانب الآخر، شعرت الحركة بقلق بالغ من تهديدات الحكومة المتكررة خلال العام الماضي بإغلاق مدارس «ديرشين» التي يلتحق بها ملايين الشباب الأتراك كل عام في محاولة لتأهيلهم للالتحاق بالجامعات، كما تعد بمثابة استثمارات بمليارات الدولارات للشركات التابعة للحركة.

وعلى الرغم من كل ذلك، تكاد تكون المشكلة الأساسية بين الحركة والحكومة هي السلطة، فأردوغان لديه حساسية كبيرة تجاه أي شكل من أشكال المعارضة، كما ظهر جليا في رد فعله على الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في يوليو الماضي. وربما شعر أردوغان بالغضب بسبب الانتقادات الموجهة إليه من الليبراليين العلمانيين العاملين بوسائل الإعلام الموالية لكولن، ولكن يبدو أن أردوغان يجد صعوبة كبيرة في تقبل كولن الذي يملك كاريزما هائلة ودعما كبيرا، في الوقت الذي لا توجد فيه مساحة في تركيا تحت قيادة أردوغان إلا لزعيم واحد ذي كاريزما كبيرة.

* صحافي حر.. يكتب في صحف «واشنطن بوست» ومجلة «تايم» وصحيفة «الغارديان» والملحق الأدبي لصحيفة «التايمز» اللندنية.