دول الاعتدال: فرصة واعدة مجددا!

TT

لأن سوريا ليست العراق، فإن ثمة فرصة تاريخية تتخلق لصالح دول الاعتدال العربي وعلى رأسها دول الخليج بقيادة السعودية التي تحولت إلى أهم الأوراق الفاعلة في المشهد السياسي الإقليمي.

تبدأ الإشكالية في إعادة قراءة سوريا اليوم بأدوات عراق الأمس، وهو ما يمثل واحدة من أكبر مآزق السياسة العربية، وذلك عبر تحويلها إلى معطى ميتافيزيقي، إما بتحويلها إلى فكرة تاريخية مقدسة يجري ارتجاعها بشكل استعادي، وإما يجري تديينها بحيث يصبح النقاش فيها وعنها ومعها ضربا من التجديف الذي يمكن أن يستتبع حملات التكفير والإدانة والتجريم بسبب الاعتراض على اللاهوت السياسي.

السياسة على الأرض مفارقة ممانعة ماكرة ومتحولة بحسب تغير الظروف والمعطيات، ومن هنا فإن إعادة فهم «الحالة السورية» باعتبارها نسخة مكررة من «العراق».

والحال أن التاريخ كأحداث سياسية لا يعيد نفسه أبدا، والأمر مختلف فيما يخص سوريا لعوامل كثيرة تبدأ بالفرق بين «البعثيين» ولا تنتهي عند حدود الجغرافيا والمكونات السياسية وحجم تنظيم المعارضة والمؤثرات الطارئة على المشهد وأبرزها «المجموعات القتالية» التي لا تنتمي للسياسة.

عدا ذلك الأمر مختلف أيضا من حيث حجم ومدى وتوقيت الضربة، وأيضا مفارقة الحلفاء الإقليميين ومقدار الدمار الذي لحق بالبلد شعبا ومؤسسات وضحايا (قصف وقتال عنيف يفوق السنتين ومائة ألف قتيل على الأقل) كما أن دخول الميديا في أدق التفاصيل أسهم في رتابة اتخاذ القرار من كل الأطراف والمناورة على حجم الانفعال الجمعي لدى المعنيين بالشأن السوري.

المتغير السياسي الأبرز الذي لا يلتفت إليه المحاولون لـ«عرقنة» التوصيف السياسي لما يحدث في سوريا، أن حلفاء الأسد هم خارج الإطار العربي الإقليمي، سواء كدول اعتدال أو الدول المحايدة وحتى الممانعة أو الواقعة في خضم رضات «الربيع العربي»، ولذلك لا تعرف إيران في محورها المرتبك إلا أشباه دول لا تملك خياراتها الإقليمية أو مجموعات خارجة على منطق الدولة بما تعنيه من تبعات السيادة والقرار المستقل وتغليب مصلحة السياسة الخارجية الوطنية.

دول الخليج ومحور الاعتدال أمام فرصة تاريخية، كما ولدت فرصة تاريخية سابقة في مصر بعد سقوط «الإخوان»، لكن بمنطق مختلف مع سقوط نظام الأسد في إعادة تعليم التوازنات الإقليمية وفق «هوية» عربية سياسية جديدة، قائمة على التحالف المصلحي وليس الشعارات القومية التي تخفي تحت منطقها المثالي مخاوف وصراعات سياسية وتحالفات خاطئة، كالتي تقع فيها دول تنظر إلى مصلحة أصدقاء في الآيديولوجيا وليس الشعب، وربما كانت تحركات تركيا تجاه «إخوان سوريا» بدعم بعض دول الخليج تكرارا على نحو أسوأ لمشهد الربيع العربي «المكبر» ومحاولة إعادة تكراره بنسخة سورية «مصغرة» وبرافعة جيوسياسية تتمثل في القدرة على استغلال نفوذها السياسي والاقتصادي في الشمال السوري، هذا الشره تجاه سوريا باعتبارها كعكة إقليمية جديدة يجب أن يحارب من قبل دول الاعتدال، وعلى رأسها دول الخليج، وبدخول لاعب جديد متمثل في مصر الجديدة التي أبدت مخاوف مشروعة حول التحولات الاستراتيجية ما بعد سقوط نظام الأسد وربما بكثير من بقايا العاطفة القومية.

الفرصة التاريخية لمحور الاعتدال تتطلب أدوارا أبعد من مجرد «إسقاط» نظام الأسد القاتل والمدمر لشعبه، فالقصة تبدأ بإعادة ترتيب الداخل السوري وتنقيته من المجموعات الطارئة عليه والتي تفكر بأهداف خارج استقرار سوريا وعافيتها التي يجب أن تعود سريعا، ومن هنا فإن إعادة قراءة مشهد ما بعد السقوط ليس على مستوى التحالفات الإقليمية ووضعية الدول، فهي وإن كانت أكثر تأثيرا، إلا أنها أقل تعقيدا بحكم ارتهانها للسياسات الخارجية والتوازنات، فإن التعقيد الحقيقي هو في التأثير على الكيانات السياسية الخارجة على منطق الدولة، ويشمل ذلك حزب الله من جهة، والذي قد يسهم على طريقة العزاء الدموي في تأجيج الحالة السورية بعد سقوط الأسد، وأيضا المجموعات المسلحة التي قد تنجرف إلى غايات أبعد من إسقاط النظام السوري، وبالتالي ستقود الحالة السورية إلى حرب مفتوحة وقد يكون تدخلا أجنبيا طويل الأمد بهدف حماية إسرائيل.

من أهم المفارقات بين الحالة السياسية العراقية إبان سقوط صدام ونظيرتها السورية، عامل المكون الديني والطائفي الأقوى تأثيرا من المكون السياسي، فنحن في المنطقة نصدر حتى في انفعالنا السياسي من مكون ديني ولو مستتر تحت شعارات سياسية، في الحالة السورية مهما قيل عن علوية النظام، إلا أن الطائفة على المستوى السياسي تماهت مع سلطة «البعث»، وفي ذات الوقت لم تستطع التأثير على هيمنة السنة على مستوى الهوية والثقافة والروابط الاجتماعية، فدوران نظام الأسد البعثي حول السلطة لم يجعله يستخدم سلاح الطائفية لكي يضمن ولاء شركائه في الحزب من الضفة الأخرى، وهنا مفارقة تديين الصراع السوري أو ادعاء أنها حرب دينية، ولذا فالأمر مختلف في العراق بحسابات الأكثرية، وأيضا التنوع في السياق الشيعي العراقي بين تيارات متباينة خمينية (ولاية الفقيه) ومدرسة إصلاحية كمدرسة محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله، وهي فروقات مهمة إذا ما أخذنا في الاعتبار فاعلين سياسيين في المنطقة كحزب الله وكل كيانات المحور الإيراني، والتي لا تحظى بتنوع يلقي بظلاله على اختياراتها السياسية.

التأثير على الخارجين على منطق الدولة مهما بدا صعبا فإنه ليس مستحيلا، حيث لا مستحيل في السياسة ولا ثابت، من الصعب التفاؤل، لا سيما والمراقب يلاحظ فشل اتحاد الرؤية بين أعضاء الجماعة الواحدة، فـ«إخوان الأردن» ضد إسقاط بشار والتدخل الأجنبي من دون حتى استشارة لرفقاء دربهم السوريين. هكذا تبدو المنطقة ساحة واسعة للمزيد من التذرر السياسي والانشطار والانقسام وتحول الصراعات السياسية الأرضية إلى حروب دينية وطائفية للأسف الشديد.

[email protected]