هلامية السياسة الدولية!

TT

لطالما نبه الخبراء والمفكرون بأن العالم يتجه نحو ما سمي بتعدد الأقطاب والقوى وأن تفرد الولايات المتحدة الأميركية بسيادة القرار الدولي مسألة وقت لا أكثر ولا أقل. ولكن الإنصات إلى هذه التنبيهات والتجاوب معها لم يكن بالتفاعلية اللازمة خصوصا أن ما عرفته منطقة الشرق الأوسط من أحداث ساخنة وحروب منذ تاريخ حرب الخليج الأولى لم يضف المصداقية على التنبيهات المشار إليها، باعتبار أن القرار الفصل كان دائما للولايات المتحدة سواء في مسألة العراق أو أفغانستان بل في كل ما يتصل بالحرب على الإرهاب ومختلف بؤر التوتر المشتعلة في العالم. وممّا زاد في تزكية هذا الموقف حقيقة أن الولايات المتحدة أصبحت القطب الأوحد في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

الظاهر في الآونة الأخيرة أن أطروحة التقدم نحو خريطة عالم متعدد الأقطاب، قد بدأت تدافع عن مصداقيتها بقوة وتثبت للعالم كله أنها نبوءة أكدتها الأزمة السورية التي شكلت مثالا تطبيقيا متميزا لهذه الأطروحة، بل إن السياسة الدولية اليوم تعيش مخاضا عسيرا، يعكس بدوره مدى الاقتراب زمنيا من تشكيل جغرافية دولية جديدة للقوى والموازين الكبرى.

طبعا ولادة عالم متعدد الأقطاب أمر إيجابي في حد ذاته ولا شك في كونه يصب في صالح الإنسانية لأن تعدد الأقطاب يعني كبح جماح كل الأقطاب المتعددة معا.

ولكن مرحلة المخاض هذه تسلك نهجا يميل نحو السلبية لأننا أصبحنا ضحية سياسة دولية هلامية تمارس التردد السياسي بشكل يشير إلى أن القرار الدولي ضائع وليس في حوزة أي قوة: لا بيد القطب الأوحد الراهن ولا القطبين القادمين روسيا والصين. وأقصى ما يستطيع أن يقوم به أي قطب هو العرقلة لا أخذ القرار!

والأنكى من كل هذا هو ما فضحته المواقف ليس من الأزمة السورية ككل فقط بل من كارثة «الغوطة» واستخدام السلاح الكيماوي المحظور دوليا حيث التردد الواضح في مواقف الدول بين الخطاب الحقوقي الإنساني المبدئي وخط أحمر وما هو سياسي مصلحي، الشيء الذي انعكس سلبا على الخطاب السياسي الدولي إزاء الأزمة السورية وحالة المد والجزر التي ميزت التهديدات الصريحة مرة والمتراجع عنها مرة أخرى: مرة ينتابنا شعور أن نظام الأسد سيتلقى ضربة قاضية خلال سويعات ومرة تستبد القناعة بأن لا أحد سيحرك ساكنا.

لا شك في أن هذه اللّخبطة وأيضا التصعيد ثم التراجع هي نتاج معركة حامية الوطيس بين الأقطاب المتعددة ومصالحها المتضاربة إلى حد التصادم. الغريب أن اللعبة الدولية كانت دائما أسيرة إملاءات المصالح المعقدة ولكن كان دائما إلى جانب ذلك هناك موقف واضح سواء كان سلبيا أو إيجابيا ومحقا أو عدوانيا. موقف يُبنى بشكل تصاعدي خلافا للروح المترددة في المثال السوري التي تجمع دون استراتيجية واضحة بين الهجوم والانسحاب في الوقت نفسه!

ولا يختلف اثنان في أن الأسد هو أكثر المستفيدين من هذه اللخبطة وهذا التردد حتى وإن كان الجزء الوافر من هذه اللخبطة يعود أيضا إلى تعقد الأزمة السورية وتشعبها. فنحن أمام ثورة اندلعت في سياق ما سمي الربيع العربي والموقف الدولي والعربي منها تسوده ظاهرة الانقسام.

الواضح أن العالم في الغالب حاليا يعيش دون زعماء إذ لا أحد يمتلك شجاعة أخذ القرار وتحمل المسؤولية والنتائج: أوباما طلب تفويضا من الكونغرس لضرب سوريا وجون كيري يطمئن القطبين البارزين ومن حولهما بأن الضربة ستكون محدودة ولا تستهدف النظام السوري بعد أن كان صرح في نفس الأسبوع بلغة أدبية سياسية ساحرة بأن عدم معاقبة النظام السوري أخطر من استخدام النظام السوري للكيماوي... ثم ها هو يمهل دمشق أسبوعا لتسليم مخزونها الكيماوي لتجنب الضربة العسكرية! وأيضا كاميرون الذي أحبط حماسته مجلس العموم البريطاني الذي رفض تأييد القيام بضربة عسكرية في سوريا. وهولاند رأى بعد خطابات نارية حاسمة ومتواترة ومتصاعدة اللهجة أنه من الأفضل استشارة البرلمان وربما طلب التصويت، كما قُدمت بالتوازي مع ذلك نصيحة فرنسية مجهولة المصدر إلى كيري كي يعود إلى مجلس الأمن.

قد نفهم أسباب التردد بالنسبة إلى بعض الأطراف التي تنظر إلى محدودية الخيار العسكري بالنظر إلى المثال العراقي مثلا أو ملف أفغانستان ولكن مثل هذه الذاكرة غير الوردية يجب ألا تواجه برد فعل عكسي سينتج بدوره سلبياته. فهو تردد ذو حدين لأنه غير محسوب ومأخوذ بكم التعقيدات والتشابكات.

إننا أمام سياسة دولية هلامية بالفعل، ترقص على أكثر من ساق، وضحية هذا التردد المرضي هو الشعب السوري.