هل نستطيع خداع أجسامنا؟

TT

ثمة تعقيدات تفوق قدرتنا على التصور في العلاقة بين أرواحنا وأجسامنا، أو بعبارة أخرى بيننا وبين أجسامنا. وأبسط التعقيدات هذه التي لا نستطيع فهمها هي أننا «نسكن» جسما لا نعلم ما يجري فيه. وأبسط مثال هو أنه قد تنشأ أمراض في الجسم ونحن لا نعرف بوجودها، حتى يأتي الطبيب ويحاول بكل ما أوتي من وسائل أن يفهم شيئا ما مما يجري في أجسامنا ثم يخبرنا بما قد توصل إليه، وقد يصيب في هذا التشخيص وقد يخطئ. أي بعبارة أخرى، فإن صاحب الجسم هو آخر من يعلم عمّا يجري داخل جسمه الذي تسكنه روحه، ومن يستعين بهم لذلك الفهم ربما لا يدركون حقيقة ما يجري فيه.

العلاقة اليومية بيننا وبين أجسامنا تحتاج إلى إعادة ترتيب، وتحتاج أن تكون مبنية على الاعتراف بأن تبنينا مسلك «إدارتنا شؤون أجسامنا» وفق أهوائنا ليس مسلكا سليما، بل هناك نصائح طبية وتربوية واجتماعية وغيرها توصل البشر إليها لإرشادنا إلى أفضل الوسائل الممكنة لإدارة شؤون أجسامنا. ولذا، علينا أن نعتني بما نأكل كي لا نضر أجسامنا بأشياء قد لا نتصور أنها تضرها، وعلينا أن نمتنع عن ممارسة أنشطة حياتية وعادات يومية قد تضر بأجسامنا دون أن نشعر.

صحيح أن ما تقدم يعلمه الصغير قبل الكبير، ولكن يظل الكبير قبل الصغير يخطئ في حق جسمه. وصحيح أن أهل العلم وأهل الطب والفلاسفة والمربين وكثيرين غيرهم لا يزالون يبذلون جهودا متواصلة في تعديل مسار تعاملنا مع أجسامنا، ولكن تظل تلك الجهود قاصرة ما لم يتعاون المرء نفسه في «إحسان» التعامل مع جسمه.

وبعيدا عن عرض فوائد تناول الأكل الصحي، وممارسة الرياضة، والامتناع عن التدخين وتعاطي المواد الضارة، والحرص على الراحة النفسية، واتباع إرشادات ونصائح الأطباء، وغيرها من الوسائل التي تقربنا «زلفى» نحو «إحسان» التعامل مع أجسامنا، دعونا نسأل: هل يمكن لأحدنا أن يخدع جسمه بالمشاعر التي يشعر بها؟

دعونا نأخذ مثالا بسيطا بمناسبة إصدار شبكة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة UN Sustainable Development Solutions Network (SDSN)، في التاسع من سبتمبر (أيلول) الحالي «تقرير السعادة العالمي» World Happiness Report 2013. الواقع في 156 صفحة. ومن ضمن محتويات التقرير عرض للعوامل التي تنشئ السعادة لدى أفراد الأمم وتأثيرات ارتفاع أو انخفاض الشعور بالرفاه well being على الشعور بالسعادة.

التقرير أكد بالأدلة العلمية أن السعادة عامل إيجابي مهم في رفع مستوى صحتنا، وعليه قد يعتقد أحدنا أن تحقيقه لأمر يشعره بالسعادة سيكون ذا نتائج إيجابية على جسمه. ومع الاتفاق أن بواعث الشعور بالسعادة تختلف من شخص لآخر، وأن أحدهم ربما يشعر بالسعادة نتيجة تقديمه الخير للناس، بينما آخر قد يعطيه الشعور بالسعادة تناوله مادة تضر جسمه أو نجاحه في سرقة أموال الغير، يبقى السؤال: هل خلايا أجسامنا تستطيع التمييز بين أنواع مسببات شعور أحدنا بالسعادة، وبالتالي قد تستفيد أجسامنا من بعضها دون أخرى؟ الباحثون النفسيون والبيولوجيون من جامعة كارولينا الشمالية نشروا ضمن عدد 29 يوليو (تموز) الماضي لمجلة «تطورات الأكاديمية القومية للعلوم» Proceedings of the National Academy of Sciences بحثا شيقا حول هذا الأمر. وأفادوا في نتائج دراستهم أن خلايا الجسم تميز بين أنواع السعادة وبالتالي تختلف تأثيرات أنواع السعادة على الجسم.

ولاحظ الباحثون أن الشعور بالسعادة المستمد من فعل أشياء ذات «أهداف نبيلة» يقدم فوائد صحية لخلايا الجسم، بينما الشعور بالسعادة الناتج عن مجرد «الإشباع الذاتي» للرغبات قد يكون له آثار سلبية على خلايا الجسم، هذا على الرغم من إعطاء كل من الأمرين شعورا بالسعادة للإنسان.

وقال الباحثون: «الفلاسفة فرقوا منذ زمن طويل بين نوعين من مسببات الشعور بالرفاه والسعادة، هناك (مذهب المتعة) Hedonism الذي يتبنى السعي نحو تحقيق ما يشعر المرء بالمتعة من أي طريق، كتناول وجبة طعام عامرة بما لذ وطاب مما قد يكون ضارا أو مفيدا، وهناك أيضا (مذهب الغايات النبيلة والعميقة في الصدق) Eudaimonia كالمشاركة في مشروع خدمة للمجتمع». وأفادوا: صحيح أنهما يعطيان لنا سعادة، ولكن خلايا الجسم تتفاعل بطريقة مختلفة مع كل منهما، وتحديدا على مستوى الجينات في نوعية تفاعلات خلايا جهاز مناعة الجسم ومقاومة عمليات الالتهابات التي تسببها الميكروبات وغيرها، مما له تأثيرات بعيدة المدى على نوعية ومدى الحياة. وأضافوا أن تأثيرات السعادة ليست سواء، بل تختلف باختلاف نوعية مسبباتها، وأن السعادة الناتجة عن عمل أفعال ذات غايات نبيلة تقدم لجهاز مناعة الجسم راحة في العمل وصحة في النتائج، بخلاف تلك الناتجة عن الإشباع الساذج للرغبات دون غايات ذات معان نبيلة فإنها تثير عمل جهاز المناعة بطريقة غير صحية وغير مفيدة للجسم.

وقال الباحثون ما ملخصه: «من يملأون حياتهم بالمتع الخالية من غايات نبيلة إنما يملأونها بسعرات حرارية فارغة لا طاقة فيها، وبالتالي لا تساعدنا على توسيع وعينا أو بناء قدراتنا في السبل التي تعود علينا بالنفع جسديا لأن أجسامنا على المستوى الخلوي تستجيب بشكل أفضل مع سعادتنا المبنية على قيامنا بأفعال ذات غايات نبيلة».

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]