مرارة استعجال النقد!

TT

لا يعلم كثير من الناس أن صاحب أكبر وأشهر مدينة ترفيهية في العالم «والت ديزني» قد هبط عليه إلهام فكرة رسم ميكي ماوس، شعار المدينة، وهو جالس في أحد القطارات يتأمل. تخيلوا.. لو أن أحدا قطع عليه خلوته، ولحظات تأمله، وانتقده أو سفهه قبل أن يكمل مشروعه - فلربما ضاعت منه هذه الفكرة التي أدخلت البهجة إلى نفوس أكثر من 650 مليون زائر.

وليس هذا فحسب، بل هناك ملايين من الناس من حولنا سرعان ما يئد إبداعاتهم وأفكارهم شخص ما قرر بلا استئذان أن يفسد عليهم ذروة لحظات الإبداع بتوجيه سهام النقد إليهم وربما قبل أن يكمل أحدهم فكرته أو عمله. فبعض الناس ما إن يبدأ بمشاهدة مسرحية أو فيلم أو برنامج تلفزيوني أو يشاهد فريق عمل مدفوعا بشغف البداية حتى ينهال عليه بسهام النقد اللاذع قبل أن تكتمل الصورة الكلية. ولذا، فإن من قواعد العصف الذهني (Brain Storming) ألا تنتقد الفكرة قبل أن يولد المشاركون أكبر عدد ممكن من الأفكار والمقترحات ثم تبدأ مرحلة الغربلة أو النقد أو التصفية.

واستعجال النقد قبل التروي والتأمل يوقعنا في أخطاء كثيرة، ويثبط الناس من حولنا. فتخيلوا لو أن الرسامين العالميين بيكاسو أو فان غوخ أو ليوناردو دافنشي، ما إن خطت ريشتهم الملامح الأولى للرسمة حتى انهمر عليهم وابل كلمات المنتقدين، فهل يبقى عمل إبداعي في هذا العالم؟ وهل يبقى معلم عمراني رائع أو ديكورات داخلية جميلة، أو طبخة لذيذة في منزل أو مطعم؟ وهل تبقى شركة ناجحة في ظل تربص بعض أعضاء مجلس الإدارة بانتقادات قاسية للإدارة قبل أن تكمل مشروعها الذي بادرت به؟

هناك أعمال بطبيعتها مثل الفاكهة، لا نستطيع أن نحكم عليها حتى تنضج. ومنها الكتابة، مثلا، ولذا تخصص جامعة هارفارد ركنا كبيرا يضم أفضل المخطوطات أو بالأحرى المسودات الأولى لإبداعات الأدباء حول العالم ليرى الناس كيف كانت بداية الأعمال الخالدة. ورغم أن هذه المسودات تبدو رثة ومهلهلة الأفكار، فإن هذا هو شأن العمل الإبداعي، إذ يحتاج دوما إلى تعديل وتبديل وإضافة حتى تكتمل أبعاده، وكأنه فيلم ثلاثي الأبعاد، لا يمكن أن تراه إلا بعد ارتداء النظارة الخاصة. ولذا، فإن من يلام هو صاحب المشروع نفسه وليس منتقديه وحدهم، لأن الأول هو الذي بادر بعرض عمله قبل أن «يخبزه» جيدا، فكانت انتقادات الناس له بالمرصاد، وربما منعته من مواصلة مشروعه المنتظر. النقد الصادق والمدروس مر، ولكنه مهم وهو ما طور المجتمعات والأفراد على مر العصور، لكن هناك نقد هزيل ينبع من تسرع وتهور، لا يزيد الطين إلا بلة!