إعادة هندسة السياسة في مصر

TT

ربما تمثلت أبرز تجليات الحراك الثوري الممتد الذي تشهده مصر منذ يناير (كانون الثاني) 2011 في عملية سوسيولوجية تاريخية لإعادة هندسة السياسة فيها على مستويات ثلاثة؛ أولها ميدان الممارسة السياسية، وفي هذا السياق يجوز القول إن السياسة في مصر قد جنحت للانتقال عبر مرحلتين؛ أولاهما من أروقتها التقليدية ممثلة في الغرف المغلقة بالمؤسسات السياسية كالبرلمانات والوزارات والقصور الرئاسية إلى الشوارع والميادين. وثانيتهما من المركز إلى الأطراف، أي من العاصمة والمدن الرئيسة والكبرى إلى القرى والنجوع والبقاع النائية، التي ظلت لعقود طوال في حالة خصومة بينة أو قطيعة شبه مطلقة مع النشاط السياسي بشتى صوره.

ولقد طال هذا التحول عملية المشاركة السياسية بمختلف أشكالها، بدءا بتنامي الاهتمام بالشأن العام، مرورا بالانضواء تحت لواء الأحزاب والتنظيمات والحركات السياسية، وصولا إلى ارتفاع نسبة المشاركة السياسية في المناطق النائية وغير الحضرية خلال التصويت في الانتخابات، ثم انخراط أبناء تلك المناطق، بكافة فئاتهم العمرية وخلفياتهم الاجتماعية والفكرية، في تنظيم مظاهرات شعبية حاشدة، سواء في يناير 2011 أو في 30 يونيو (حزيران) 2013 تعيد إلى الأذهان ما كان يجري في تلك البقاع قبل عقود طويلة خلت، حينما تظاهر سكان الريف المصري تضامنا مع سعد باشا زغلول عام 1919، ثم انتفض بعدها بعد نيف وثلاثة عقود دعما لعبد الناصر وحركته وسياساته.

ويتعلق ثاني المستويات بطبيعة ونوعية القضايا محل الاهتمام والتفاعل السياسي، فبعد أن كان جل اهتمام السواد الأعظم من المصريين منصبا بالأساس في القضايا ذات الطابع الاقتصادي والمعيشي البحت، بدأت أولوياتهم تتسع لتفسح المجال أمام قضايا سياسية وإنسانية، كالمطالبة بالعدالة الاجتماعية ودولة الحكم المدني، التي هي ليست بالدينية ولا بالعسكرية، فضلا عن إيلاء مزيد من الاهتمام لمسألة الديمقراطية والحريات بشتى صورها، علاوة على محاربة الفساد وترسيخ مبدأ سيادة القانون.

أما ثالث المستويات، فيتصل بالفاعلين السياسيين، فعلى خلاف ما كان سائدا فيما مضى من انحصار أولئك الفاعلين في الوسائط السياسية التقليدية كالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، اعترت خارطة العمل السياسي والحراك المجتمعي في مصر مؤخرا تغيرات جوهرية مهدت السبيل أمام فاعلين سياسيين جدد، كالجماهير بلا قيادة وغير المنتمية إلى أي فصيل سياسي تقليدي، كما الحركات الشعبية الجديدة كحركة «السادس من أبريل» وحركة «تمرد» وغيرهما. وبكلمات أخرى، يمكن القول إن مركز الثقل في عملية صنع القرار السياسي قد انتقل بفعل الحراك الثوري الهادر والمتواصل، إلى الشارع والجماهير، بعد أن أضحت اتجاهات التأثير في تطورات العملية السياسية من أسفل، حيث القاعدة الجماهيرية العريضة، إلى أعلى، إذ النخبة السياسية الحاكمة الضيقة، بعد أن كانت في سالف الزمن تمضي باتجاه واحد فقط من أعلى إلى أسفل.

فلسنوات طوال، كانت السياسة منحصرة في النخبة السياسية الحاكمة من دون عامة الناس، ولما كانت تلك النخبة تمعن في الاستعلاء على الجماهير، معتبرة إياها غير مؤهلة لمباشرة حقها السياسي، فقد دأبت على أن تسلبها حقها في التصويت والترشح في الانتخابات، ومن ثم في الرقابة على الحكومة ومساءلة الحكام، ومن هنا كان تزوير الانتخابات والتمديد للحكام في السلطة إلى آماد غير محددة، وكذا تمرير القوانين والتشريعات من دون الرجوع إلى من يعنيهم الأمر.

وفيما كانت النظريات التقليدية في علم الاجتماع السياسي تتعامل مع الشارع العربي والمصري كمكون سكوني مسلوب الإرادة وتابع للسلطة لا يتحرك إلا في اتجاه واحد مثل «القطيع»، جاءت الثورات العربية لتدحض تلك الأنساق الفكرية المغلقة وتثبت، دونما شك، أن الشارع قد تحرر من الأسر وأمسى محركا رئيسيا لسياسات الدول، بشقيها الداخلي والخارجي، وفق ديناميكية ذاتية مستقلة.

وبقدر ما تطوي بين ثناياها من إيجابيات عديدة، أبرزها إيجاد نوع من الرقابة الشعبية الصارمة على السلطة الحاكمة وإنهاء حالة الجفاء المزمنة بين الجماهير والسياسة، لا تخلو إعادة هندسة السياسة في مصر من بعض المخاوف في مجتمع لا تزال تجربته الديمقراطية في أطوارها الجنينية، ذلك أن تصاعد تأثير الشارع والفاعلين السياسيين الجدد ربما يأتي على حساب دور الوسائط السياسية التقليدية، حيث سيتزايد شعور الجماهير بالتمكين السياسي، بمعنى القدرة على التغيير والتأثير في عملية صنع القرار، كما الاستغناء عن تلك الوسائط، لتبقى السياسة في الشارع بعيدا وبديلا عن الأركان المتعارف عليها للعملية السياسية، كالمؤسسات والأطر الدستورية والأقنية الحزبية، على نحو يرتد بنا إلى زمن الديمقراطية المباشرة بدلا من ترسيخ دعائم الديمقراطية التمثيلية.

لذلك، حري بالقوى السياسية أن تغتنم هذا الحراك لتعيد هيكلة بنيانها وبرامجها وآليات عملها، بما يتماشى وهذا التنوع اللافت في الخارطة السياسية والاجتماعية الجديدة، كأن تعزز من حضورها في الأطراف إلى جانب المركز، وأن تتبنى مبادئ وأفكارا أكثر واقعية كيما تتناغم واهتمامات الشرائح الجماهيرية المؤثرة كالشباب، الذي مثل كلمة السر في الحراك الثوري جراء شعوره المضني بالغبن والتهميش والإقصاء وفجوة الأجيال، وهو الشعور الذي عجزت مخرجات ثورة يناير التي صنعها عن تبديده، الأمر الذي دفعه إلى تأسيس حركات شبابية جديدة تستوعب طموحه وتطلعاته على غرار حركة «تمرد» وغيرها.

وجدير بالنخب السياسية والفكرية ألا تستسلم للسقوط في براثن تملق الميادين وتزلف الجماهير؛ كونها باتت تحتكر منح صكوك الوطنية والثورية، وأن تبتكر من الطروحات وتتوخى من السبل الدستورية ما يكفل ضبط وتنظيم عملية إعادة هندسة السياسة، وترشيد اندفاعة الجماهير وتغول الشارع، بما يضمن استكمال التحول الديمقراطي ويحقق التوازن المطلوب ما بين تصاعد تأثير الشارع والجماهير من جانب، واستبقاء دور المؤسسات والوسائط السياسية التقليدية من جانب آخر.