الثقافة العربية أفقا للتفكير

TT

لست أريد في حديثي اليوم أن أنظر في الثقافة العربية من حيث مكوناتها ولا من جهة مضامينها، بل إني أريد اعتبارها من حيث هي الإرث الحضاري المشترك بين العرب جميعهم ومن حيث إنها المجال الطبيعي الذي تكتسب رغباتهم وأحلامهم والصلات الثقافية التي تربطهم بالعالم من حولهم تماسكها ودلالتها بواسطته. فما شأن هذا المشترك الروحي بين العرب اليوم وما قدراته على التعبير عما لا تزال الساحة العربية تجيش به من انفعالات؟ ولماذا يقول الكثير منا، ويكرر القول، إن ما أبانت عنه حركات الانتفاض العربي يدل على ضعف في العماد الثقافي في حياتنا أو عن تخلف وتقاعس في المجال الثقافي؟ وأخيرا فماذا نقصد بقولنا جعل الثقافة العربية أفقا للتفكير؟

أما أن هنالك ضعفا في البناء الثقافي في حياتنا العربية فلا شيء أدل عليه عندي من غياب الخيط النظري الواضح الذي يوجه في الفعل والعمل وأنت إذ تعمل الفكر في الحركية التي توقد نيران هذا الانتفاض فأنت تجد فقرا نظريا هائلا من جانب أول، والتباسا في الفهم من جانب ثان وخللا في الرؤية من جانب ثالث. لست أبتغي في التدليل على هذه الأمور الثلاثة كلها سوى هذا التسخير الرديء للدين في معترك الصراع على امتلاك السلطة التنفيذية: فأنت إذ تخالفني في الرأي ربما لا تكون مخطئا فحسب بل لعلك تكون كافرا، وكما قلت في حديثي في الأسبوع الماضي إن هنالك تطابقا، ما أنزل الله به من سلطان، يقوم بين الخطأ من جهة والكفر من جهة أخرى. وهكذا فإن اللاعتراض على السلطة السياسية يغدو اعتراضا على ما يقرره الشرع. إن هذا الخلط هو أسوأ صور الاستبداد، وأكثر أنماط النظر صلة بعهود الانحطاط والظلام في تاريخنا، وبالتالي فهو يبعدنا عن روح الإسلام في صفائه وسماحته بالقدر الذي يحدث فيه شرخا هائلا في البناء الثقافي لهذا المشترك العربي العام الذي هو قوام وجودنا أمة وثقافة.

كل هذه علامات وإمارات تدل على أن خطرا هائلا يتهددنا في الأرض التي نقف عليها ويستهدف العصف بكياننا. هنالك بون شاسع بين الحال التي نجد أن الثقافة العربية الإسلامية قد كانت عليها في الزمن الذي يستحق اعتباره عصرا مرجعيا (هو عصر تكون الثقافة العربية وتشكلها في حواضر مختلفة وفي أزمنة متعددة، فهو إذن عصر مرجعي يمتد عدة قرون) - هو ما أدعوه عصرا كلاسيكيا. كما أن هنالك بونا شاسعا يفصلنا عن الزمن المرجعي الآخر الذي قام مفكرونا العظام بتدشينه بعد قرون طويلة من الخمول والانقباض، وهذا الزمن المرجعي الثاني، هو ما نتواضع على نعته بعصر النهضة أو اليقظة العربية. أجدني أميل إلى القول إننا اليوم في حال نكاد نفقد فيها البوصلة، ويكاد الخيط الناظم الذي شكل عقد الثقافة العربية الإسلامية أن ينفرط بين أيدينا، وبالتالي فلسنا في منأى عن التهديد في هويتنا الثقافية العربية الإسلامية، في هذا الذي أنعته في حديثي اليوم بالمشترك الثقافي العام.

تتكفل أدوات التثقيف، المقصودة وغير المقصودة، برعاية المشترك الثقافي العام وذلك ما تقوم به وسائل الإعلام السمعي والبصري في العالم العربي بكيفيات مختلفة - ولعل من نافلة القول أن نؤكد أن الفضائيات وأنماط التواصل الجديدة المتاحة والمتعاظم شأنها تسهم بالتسريع في تعميق هذا المشترك العام وفي إعادة بنائه. هذا أمر واضح بذاته، ولعلي أكتفي بالتلميح إلى أن رابطة العروبة من وجه والشعور بالانتماء إلى المجال الثقافي العام بين العرب هو اليوم - في زمان الضعف العربي هذا - أقوى بكثير مما كان عليه قبل عقود قليلة، بل إنه قد نجح في ما أخفقت فيه أيديولوجيات القومية العربية مجتمعة في الوقت الذي كشفت فيه عن أوجه رديئة في تلك الأيديولوجيات. ربما كان هذا الكلام مقبولا وكان على الأقل واضحا، بيد أنني أود توجيه انتباه إلى أمر آخر هو ذاك الذي يتعلق بما كان من وسائل تثقيف غير عفوي ولا تلقائي. أقصد بذلك ما كان في مستوى التعليم والتكوين في مراحله المتوسطة والعليا.

في أحد الاجتماعات العربية الأكاديمية ضم نخبة من الباحثين والأكاديميين العرب، تم إبداء الملاحظة التالية: مع الوفرة النسبية للمؤلفات التي تتناول التأريخ للفكر العربي الإسلامي ومع توافر إمكانات مهمة في بعض البلدان العربية، فنحن نلاحظ غياب مؤلف عربي ميسر وسهل التداول على غرار ما ينعت في الجامعات الأميركية والأوروبية عموما بـ«textbook» وفي هذه الأسابيع الأخيرة أجد أن دواعي البحث والانشغال الجامعي تحملني على إبداء ملاحظة أخرى (ربما كانت شكلا تعبيريا مختلفا عن الملاحظة السالف ذكرها): بين منتصف ثلاثينات القرن الماضي ومنتصف الخمسينات منه تقريبا أصدر أحمد أمين ثلاثيته المعروفة: «فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام»، و«ظهر الإسلام» - وإنني أجيز لنفسي (من موقعي الأكاديمي) أن أصدر في حق هذا المؤلف الحكم المزدوج التالي. إن كتاب أحمد أمين يظل، بالنظر إلى موضوعه وإلى الوحدة العضوية التي تربط بين أجزائه، وكذا بالنسبة للجهد المبذول فيه، كتابا يتيما في الفكر العربي الإسلامي المعاصر - فلست أعلم له نظيرا في المكتبة العربية المعاصرة. وإذن فإن ثلاثية أحمد أمين تظل من الناحية العملية، مرجعا عربيا فريدا في التأريخ لهذا الذي نقول عنه إنه المشترك الثقافي العام بين العرب اليوم. وإذا كان الجهد العظيم الذي بذله المرحوم أحمد أمين ويترجم لتلك الحماسة النبيلة التي حكمت الفكر العربي من جيل تلامذة الإصلاحيين الكبار، على النحو الذي يتحدث عنه طه حسين في المقدمة التي جعلها لفجر الإسلام (الجزء الأول أو المشروع في صيغته الأولى قبل أن يتطور بعد ذلك) فإن من غير اللائق بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة أن تظل بادرة صاحب الثلاثية المشار إليها جهدا يتيما في الوقت الذي تطورت فيه أساليب التواصل الثقافي وفي عصر نجد أن الوعي بالانتماء إلى المشترك الثقافي العام قد غدا أكثر قوة، وعلى وجه أخص في زمان عربي نجد أن سمته الكبرى هي الاضطراب الشديد الذي يسعى إلى النيل من الوعي الثقافي العربي.

إذا كانت الحاجة اليوم تدعونا إلى بلورة وعي ثقافي عربي جديد (هو الشرط الأول والأخير فيما نحلم به من نهضة عربية ثانية) فإنه من نافلة القول أن نقرر بأنه لا سبيل إلى ذلك إلا متى جعلنا الثقافة العربية الرصينة - تلك التي كان الانفتاح وقبول الآخر - سمتها المميزة أفقا لتفكير استراتيجي حقيقي.