أوباما الحائر من فخ الكونغرس إلى فخ الكيماوي!

TT

ما لم ينته هذا الشريط الطويل من التضارب الأميركي المخجل حيال الأزمة السورية بسوق بشار الأسد إلى جنيف ليوقع على التنحي وتبدأ عملية انتقال سياسي حقيقية، فإننا سنكون أمام انهيار مريع للمصداقية الأميركية في الشرق الأوسط والعالم، وسنكون أمام ثلاثة مهزومين؛ وهم: باراك أوباما، والأمم المتحدة، والقوانين الدولية لردع الإبادة بالكيماوي، وفي المقابل أمام ثلاثة منتصرين؛ وهم: النظام السوري الذي يقطر دما، وروسيا التي تقطر إثما لحمايتها لسوريا، وإيران المتورطة في الدم السوري.

في أقل من أسبوعين، تحولت أميركا في نظر الكثيرين من إمبراطورية تقرع طبول حقوق الإنسان إلى جمهورية موز كبيرة، وهو ما يذكرني بما كتبه جون تشاينبك يوما «عندما أنظر إلى مداخن البيت الأبيض أحسبها فبركة كبيرة للأوهام الخادعة»، فلقد تصاعدت من هذه المداخن في الأسبوعين الأخيرين وبعد مذبحة الكيماوي، تصريحات وعنتريات كثيرة تبين سريعا أنها من الأوهام الخادعة والمخدوعة!

لنتذكر قليلا:

بعد مذبحة الغوطتين، أعلن أوباما أنه سيوجه ضربة عقابية محدودة إلى النظام السوري الذي تجاوز الخط الأحمر، وفي اليوم الثاني قال إنه سيذهب إلى الكونغرس «لكي تتحدث أميركا بصوت واحد»، لكنها تتحدث الآن بأصوات متناقضة تعمق الخيبة التي يتقلب فيها أوباما، في استوكهولم وقف أوباما إلى جانب فريدريك رينفيلت ليقول إنه واثق بأن الكونغرس سيوافق على الضربة، وبعد أيام قال إنه غير واثق بهذا. ولنتذكر قوله: «إن مصداقيتي ليست معرضة للخطر، مصداقية المجتمع الدولي معرضة للخطر، مصداقية أميركا والكونغرس معرضة للخطر، إننا نتحدث كثيرا عن القوانين والأعراف الدولية».

لا حاجة إلى استعراض عنتريات جون كيري، ولا إلى كلام سوزان رايس قبل يومين عن أن «أميركا يجب أن توجه ضربة عسكرية إلى سوريا لأن هذا يبعث برسالة إلى إيران، وأنها ملزمة أخلاقيا بالرد على استخدام الأسد السلاح الكيماوي»، لكن المثير أن كلام رايس تزامن مع موافقة أوباما على الدخول في «النفق المظلم» لعرض موسكو حول تسليم الكيماوي، الذي سرعان ما بدا أنه مراوغة روسية جديدة، وخصوصا بعد رفض بوتين ربط مشروع القرار الفرنسي بالفصل السابع مشترطا إعلان أميركا التراجع عن الضربة قبل تسليم الترسانة الكيماوية!

في الأساس، لم يكن الأمر عرضا روسيا بناه سيرغي لافروف بسرعة قياسية انطلاقا من رد كيري على ذلك «السؤال الافتراضي»: كيف يستطيع الأسد تجنب الضربة العسكرية؟ بالقول: «بتسليم ترسانته الكيماوية في أسبوع ودون إبطاء، لكنه ليس مستعدا للقيام بذلك»... كانت عملية مدبرة، وضعت في كواليس قمة الثماني عبر ما يعرف في الدبلوماسية باقتراح «اللاورقة»، وقد اتفق عليه بوتين وأوباما انطلاقا من اقتراح سبق أن قدمه السيناتور ريتشارد لوغار في أغسطس (آب) الماضي، بأن يسلم الأسد ترسانته الكيماوية بعدما هددت دمشق باستعمال هذا السلاح ردا على أي عدوان خارجي، وما جرى بعد ذلك كان مسرحية متدرجة... كيف؟

1- السؤال الافتراضي كان مفبركا: «هل يستطيع الأسد تجنب الضربات العسكرية»؟ كان جواب كيري حاضرا ومتفقا عليه، فقال بسرعة ومن دون لحظة تأمل أو تردد: «يمكنه أن يسلم سلاحه الكيماوي إلى المجتمع الدولي دون تأخير، لكنه لن يفعل»!

2- المسرح الروسي كان جاهزا، فبعد أقل من ساعة وقف لافروف يدعو النظام السوري لتسليم ترسانته، وفي أقل من ساعة وقف وليد المعلم الذي كان ينتظر في موسكو وإلى جانبه فيصل المقداد وبثينة شعبان، ليقرأ بسعادة بيانا كتب في دمشق، متعمدا فظاظة الرياء بالحديث عن «الحرص على أرواح مواطنينا» وقد قتل منهم ما يزيد على مائة ألف!

3- تتوالى مواقف الترحيب مع إبداء الحذر طبعا. يتصل كيري بلافروف لترتيب المسار. يتم تأجيل التصويت في الكونغرس وتستمر تمثيلية ضغوط البيت الأبيض للحصول على التفويض للضربة. يدخل بان كي مون على خط الترتيبات الغامضة والمعقدة لتسليم الكيماوي التي تحتاج إلى سنوات، ويلتقي كيري لافروف أمس في جنيف لضبط إيقاع «الصفقة - المخرج»!

4- أوباما كان واقعا في فخ فضيحة عجزه عن تنفيذ تهديداته بعدما ذهب إلى الكونغرس، انتشله بوتين من المأزق عبر مبادرة الكيماوي، لكنه وقع في مأزق أدهى لأنه أفقد أميركا صدقيتها في المنطقة، ولهذا ما لم ينته هذا الشريط الأميركي الطويل من التضارب الفاضح، بسوق الأسد إلى جنيف للتنحي وبدء عملية انتقال سياسي، فسيكون أوباما قد حول أميركا من إمبراطورية إلى جمهورية موز ليصح فيه قول السوريين إنه «مضطرب وممثل مسرحي»!