كيمياء سوريا وقيصر روسيا

TT

نكاد نصدق أن المشكلة في سوريا هي وجود السلاح الكيماوي. لا بل نحن ملزمون بتصديق الكذبة الروسية - الأميركية وتجرعها حتى الرمق الأخير. علينا أن نتناسى - وبصدر رحب - أن السلاح الكيماوي وجد أصلا، ليمثل توازنا للرعب مع إسرائيل، لا ليستخدم ضد الشعب السوري الأعزل أو مطية لإعادة روسيا كلاعب دولي إلى الساحة العالمية، ومدخلا لتعقد من خلاله صفقاتها حول إيران وكوريا، وتتقاسم مع باقي أبطال اللعبة قطع الجاتو.

كيفما دارت الرحى، وجد العرب أنفسهم خاسرين. كلهم خاسرون ومنكسرون. السلاح الكيماوي هو ملك للشعب السوري لا للنظام، والتخلص منه مطلب أميركي إسرائيلي، أولا. لم يكن من شاغل للجار العدو لسوريا منذ اندلعت الثورة، إلا معرفة من سيضع يده على هذا السم القاتل، بعد أن يسقط النظام. أما وأن المفاوضات حول الكيماوي قد بدأت الآن، وهي على الأرجح ذاهبة إلى خواتيمها، فإن سوريا بعد أن تتعرى من كيماويها وتريح إسرائيل، ستكون على الأرجح، أمام واحد من مصيرين؛ إما أن يتمكن اللاعبان الكبيران، من استكمال الاتفاق على صفقتهما، بما يشمل بقية الملفات العالقة بينهما في المنطقة، وبالتالي يفرض على السوريين الحل الذي رسم لهم بالنيابة عنهم، أو تتعثر المفاوضات وتطول ويترك الأفرقاء يتصارعون وينتظرون حتى ينهكهم الدم والثأر الأخوي العبثي. فموت مزيد من السوريين ولو بمئات الآلاف، لن يؤرق عالما مشغولا بحياكة مناطق نفوذه وعقد صفقاته التجارية الدسمة.

تصبح الصورة أكثر وضوحا حين نعرف أن الاتفاق بين الأميركيين والروس حول السلاح الكيماوي السوري - على عكس كل ما يشاع - ولدت بوادره، خلال قمة العشرين في بطرسبورغ التي عقدت يومي 5 و6 من الشهر الحالي، وأثناء لقاء ثنائي جمع بوتين وأوباما، من دون أن يدخل أي منهما في التفاصيل يومها. هذا على الأقل ما قاله المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف يوم الثلاثاء 10 سبتمبر (أيلول) في حديث لوكالة «إنترفاكس» الروسية. وبالتالي فإن وزير خارجية أميركا كيري لم يزل لسانه في مؤتمره الصحافي حين تحدث عن السلاح الكيماوي السوري، ولم تستغل روسيا تلك العبارة وتبني عليها، كما يحلو للبعض أن يجتهد، بل إن الأميركيين هم الذين بادروا لطرح الفكرة.

وإذا ما صدقنا صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، فإن أوباما هو الذي قال لبوتين أثناء ذلك اللقاء التاريخي، بأن «إيجاد وسيلة لتحييد السلاح الكيماوي، سيكون كفيلا بإيقاف الهجوم على سوريا». وهي رغبة تلقفها بوتين بسرعة البرق، وكلنا يتذكر الدعوة المفاجئة لوزير خارجية سوريا وليد المعلم الذي استدعي على عجل إلى روسيا، بينما كانت طبول الحرب تقرع في المتوسط، والعالم كله ينتظر ساعة الصفر.

صحيح أن الأساطيل العسكرية الأميركية والروسية، ما تزال تزرع المتوسط وتستعرض قوتها الحربية، وأن أميركا لا تريد أن تتنازل عن لهجتها التهديدية، على اعتبار أن انتزاع التنازلات من النظام السوري وحليفه الروسي، لن يأتي إلا بالقوة، لكن بوتين هو الآخر ماض في الترويج - وبكل الوسائل المتاحة - لمشروعه الكيماوي، مهددا بأن الفشل سيشعل المنطقة إرهابا وموتا ودمارا، لاعبا على أوتار رأي عام عالمي، لم يرَ من الحروب الأميركية في السنوات العشرين الأخيرة غير الفشل المرير.

تؤكد مصادر مطلعة، أن المفاوضات على الكيماوي ستكون أسلس مما يتصور البعض - بحسب مجلة «كوميرسانت» الروسية العريقة - إذ أن هذه المفاوضات التي بدأت في جنيف، تستوحي البرنامج الأميركي الذي حمل اسم Nunn Lugar ووضع خصيصا في نهاية الحرب الباردة وأيام «البريسترويكا» لعقد اتفاق بين أميركا وروسيا عام 1991، تخلت بموجبه هذه الأخيرة عن جزء من أسلحتها. أي أن خارطة الطريق جاهزة، وتطبيقها على السلاح السوري بعد الروسي لن يكون عسيرا.

انكفأت روسيا أربعين عاما عن المنطقة، وهي من حينها تعد العدة لعودة مظفرة. بوتين بروحه الإمبراطورية، لا يريد أن يخسر فرصة ذهبية لبلاده. سيرغم الزعيم الروسي دمشق، على الأرجح، على خطى سريعة، لإثبات حسن نواياها في تخليها عن سلاحها الكيماوي.. سيفعل المستحيل ليؤكد أن كلمته هي الفصل في سوريا، وأن النظام ينفذ رغبات روسيا من دون تردد. وهذا تماما ما قاله الأسد: «لو لم تكن هناك مبادرة روسية، لصعب على سوريا التحرك في هذا الاتجاه. بيننا وبين روسيا علاقة ثقة. وقد أثبتت أنها دولة كبرى يمكن الاعتماد عليها».

نجاح مبادرة القضاء على الكيماوي لن يوقف جنون الموت في سوريا، ولن يقصر أجل النظام، ولن يغير كثيرا في حسابات الربح والخسارة على الأرض، ومع ذلك يمضي الروس والأميركيون، في فيلم استعراضي مثير، يتوجب على المتفرجين العرب تصديقه، والتصفيق له، إما لأنهم ضد الحرب ويفضلون تجنبها، أو لأنهم مغلوبون على أمرهم.

ويرى مراقبون أن هذا الفراغ العربي بعد الثورات، مع بوادر الضعف الأميركي المستجد، سيسمح لروسيا بأن تقوي حلفها مع كل من الصين وإيران والعراق، لتكسب المزيد من النفوذ. المعركة ما تزال في أولها وحرب باردة جديدة بدأت نارها تلسع أبناء المنطقة.