تغليب الآيديولوجيا على الواقع

TT

ما حدث في مصر كان متوقعا، ولكن على مدى زمني أبعد من حيث التوقيت، لكن حدوثه بهذه السرعة وبهذه الصورة الدراماتيكية لم يكن متوقعا.. فما الذي عجل بسقوط الرئيس محمد مرسي بهذه السرعة، وبالتالي سقوط تجربة «الإخوان» في مصر؟

هنالك أربعة عوامل على الأقل يمكن أن تفسر هذا السقوط المدوي:

الأول: تعامل حزب الحرية والعدالة، ومن ورائه جماعة الإخوان، مع المرحلة الانتقالية الحرجة التي مرت بها مصر وكأنها مرحلة عادية، ولذلك جرى التركيز خلالها على ما يسمونه بالشرعية الانتخابية (الحزبية)، أي شرعية صناديق الاقتراع التي تعطي للفائز تفويضا واسعا لإدارة شؤون البلاد، وفقا لبرنامجه السياسي. وفي هذا السياق جرى الاستئثار بالسلطة بشكل مستفز وغير حصيف، وجرى تجنب أي إشراك جدي ومتوازن لبقية القوى السياسية المشاركة في الثورة المصرية، بل والمسارعة إلى ما يسميه قسم كبير من المصريين بـ«أخونة الدولة» بشكل مستفز ومثير لمخاوف العديد من مكونات المجتمع السياسي المصري، إذ كان هنالك ما يشبه التكالب على السلطة وعلى إحكام القبضة على مؤسسات الدولة والمجتمع، ولذلك كانت إدارة المرحلة الانتقالية مرتبكة وغير ناجعة.. ومخيبة لآمال ملايين المصريين.

الثاني: سوء تقدير معادلات الواقع المصري وتوازناته السياسية والاجتماعية، حيث اعتقد الحكام الجدد أن الانتخابات أعطتهم مفاتيح الحكم بالمطلق، وضمانا للبقاء في السلطة لفترة طويلة، وأن بقية القوى السياسية «ليست سوى جماعات غوغائية» أو فقاقيع صوتية، سينتهي بها الأمر إلى التسليم بواقع ميزان القوى القائم على الأرض الذي خلقته شرعية الانتخابات. وغيبت هذه القراءة الساذجة عدة عناصر مهمة من المعادلة المصرية أو ما يمكن تسميته بالكتلة التاريخية المصرية، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية والمؤسسة الإعلامية، والقوى الشبابية الثورية وملايين المصريين المهمشين المصابين بخيبة الأمل.

الثالث: أن الرئيس المعزول مرسي جعل من نفسه رئيسا معلقا بين السماء والأرض من دون مؤسسات للدولة مكتملة، وكان يستند إلى التفويض الانتخابي واعتباره «الشرعية» المطلقة، في حين أن العالم كله يعلم أنه لا وجود إلى تفويض كامل ولا شرعية مطلقة، حتى في البلدان الديمقراطية، فالانقلاب على البرنامج أو الأسس التي أجمع عليها الناس يتسبب في اهتزاز هذه الشرعية وتقليص التفويض، وكان واضحا أن الرئيس كان يتجه إلى إعادة إنتاج الاستبداد من جديد، فانقلب على الشعب الذي أنجز ثورة من أجل تحقيق أهداف محددة، فإذا بالرئيس يعمل على تحقيق أهداف أخرى هي في الحقيقة «جماعة الإخوان».

الرابع: العجز الواضح في إدارة شؤون الدولة وشؤون الناس اليومية، خاصة على صعيد حل المشكلات المعيشية للمواطن البسيط، والعجز عن حل أو الحد من المشكلات الأمنية. فإذا كانت شؤون المعاش تتدهور وشؤون الأمن تتدهور بشكل يومي، وإذا كانت سلطة الدولة ترتخي، فإنه من الطبيعي أن يسحب الناخبون تفويضهم الانتخابي.

لقد جرى باختصار تغليب الآيديولوجيا على الواقع، والتسلط على حاجات الناس، والشعارات على الإنجازات، والغرور على التواضع السياسي، فكانت هذه الثورة المصرية الجديدة نتيجة طبيعية - وإن كانت غير متوقعة في هذا التوقيت - لمسار خاطئ اختارته جماعة الإخوان، يجمع بين ضعف الكفاءة الإدارية وسوء التقدير، حيث أخطأت جماعة الإخوان عندما قررت الاستفراد بالسلطة، والانقلاب على وعودها لما قبل الانتخابات وبعدها، حيث تصرفت هذه القوة وكأنما الذي حدث في مصر هو ثورة إسلامية، مع أنها تعلم علم اليقين أن الثورة المصرية التي وقعت في مصر كانت مدنية ولم تكن إسلامية وكانت مشتركة، ولم تكن لفصيل واحد، بل الأخطر من ذلك أن «الإخوان» قد تجاهلوا حقيقة ثابتة، وهي أن الجيش في مصر ليس بوسعه إلا الانحياز إلى الشعب بملايينه، وذلك لتفادي انهيار الدولة وتفككها، إلا أن محمد مرسي وجماعة الإخوان قد تجاهلوا حجم الحدث المصري الشعبي ومغزاه ودلالته الخطيرة، استنادا فقط إلى شعار التمسك بالشرعية.

ومن الواضح اليوم أن هناك تغيرا كبيرا في مصر تجاه الإسلام السياسي (على الرغم من تنوع مواقفه)، بما يعني أن الرقم الإخواني يضاف إلى معادلة الفشل العربي المزمن وسط منطقة الزوابع العربية. كما أنه من الواضح أيضا أن تيار «الإخوان المسلمين» سيبقى تيارا موجودا في الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، ولكن سيكون لزاما عليه القيام بمراجعات شاملة للوضع السياسي والفكري الذي جعله يفقد نسبة كبيرة من الحضن الشعبي الذي قدم له الحماية والدعم في المرحلة الأولى.

* كاتب وإعلامي بحريني