انكفاء أوباما واستراتيجية بوتين

TT

كم هو بالغ التعبير والرمزية أن يكتب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقالة في صحيفة الـ«نيويورك تايمز» يعبر فيها عن رؤيته واستراتيجيته الدولية، ويخاطب الشعب الأميركي وقيادته بصفته قائدا دوليا يوجه ويحذر ويشرح، وبوصفه وارثا شرعيا للاتحاد السوفياتي الذي هزم في الحرب الباردة ليقول للجميع ها نحن نعود مجددا للمشهد الدولي، وعلى حساب الولايات المتحدة الأميركية، بل يشمت بلغة مبطنة بسياساتها في المنطقة ويشيد بسياسات بلاده.

في مقالة بوتين الكثير من المغالطات تجاه الأزمة السورية، إنْ في التوصيف وإنْ في التحليل وإنْ في النتيجة، ولكن تجاه أميركا تحديدا فيبدو أنه يفهم جيدا مزاج إدارة أوباما، ويرى انسياقها وراء استراتيجيته ويشيد بذلك حين قال: «ووفق تصريحات الرئيس أوباما، فإن الولايات المتحدة ترى في هذا بديلا عن العمل العسكري». وقد كان وزير خارجيته سيرغي لافروف أكثر صراحة منه حين قال: «ونحن مقتنعون بأن شركاءنا الأميركيين يفضلون (بقوة) حلا سلميا لهذه المشكلة». («الشرق الأوسط»، عدد الجمعة الماضي).

ربما كان صحيحا أن رئاسة الولايات المتحدة الأميركية كانت تنتقل بين حمائم تخلق صقورا وصقور تخلق حمائم، أقله منذ عهد الحمامة جيمي كارتر الذي ورثه الصقر رونالد ريغان وتبعه الصقر جورج بوش الأب ثم جاء الحمامة بيل كلينتون ليتبعه الصقر جورج بوش الابن وصولا للحمامة باراك أوباما.

ومع الاعتراف بأن التقسيم إلى حمائم وصقور هو تقسيم فقير في رؤية المشهد، ولكن له دلالات مفيدة في هذا السياق، وكلاهما، أعني الصقور والحمائم، يرتكبون أخطاء استراتيجية تقل أو تكثر، تصغر أو تكبر، ولكن تردد أوباما وضعفه ستكون له نتائج كارثية على مكانة الولايات المتحدة الأميركية.

قبل عامين خاض كاتب هذه السطور بحضور نخبة من الكتّاب والمثقفين حوارا مع أحد أساتذة السياسة في جامعة عربية على هامش منتدى إعلامي، وقد غضب ذلك الدكتور من وصفي حينها لأوباما بالضعيف، وقال بحماسة كلاما كان يكرره كثيرون من محبي أوباما حينذاك لتبرير سياساته وقراراته، ومن الجيد أن ضعف أوباما بلغ حدا أن يكتب الدكتور الكريم ذاته مقالة الأسبوع الماضي يتفنن فيها في وصف ضعف وتردد وحيرة أوباما، والغرض من سرد هذه الواقعة هو استحضار مؤشر على تجلي ضعف أوباما لدى محبيه والمقتنعين به في مدة لم تتجاوز العامين في المنطقة والعالم.

إن الضعف في لحظات الحسم يجلب الكوارث، ولقد كان الرئيس كارتر ضعيفا في استراتيجيته وقراره في إدارة الصراع تجاه إيران نهاية السبعينات، وتساهل في صعود آية الله الخميني لسدة الحكم، وتردد كثيرا في اتخاذ ما يلزم حينذاك، وقد استمرت أميركا تدفع ثمن ذلك الضعف إلى اليوم أضعافا مضاعفة.

منذ بدء الأزمة السورية اصطدمت كل مشاريع القرارات التي قدمتها الدول الغربية والعربية في مجلس الأمن بالفيتو الروسي - الصيني، واليوم يبدو أن أوباما لم يرَ أي حرج في ذلك، فهو بعد أن أرعد أوباما وأزبد باتجاه الحرب والمعركة والضربة عاد ليقبل بخطة روسية تندرج ضمن الاستراتيجية الروسية تجاه الأزمة السورية، وتتعلق بالسلاح الكيماوي السوري فقط، ولا تتعرض بأي شكل من الأشكال لجريمة استخدامه ومحاسبة مستخدميه، فضلا عن أن تتطرق للجرائم الأخرى ضد الإنسانية التي ارتكبها نظام الأسد، كتهجير الملايين والقتل الجماعي لمواطنيه بأعتى الآليات العسكرية فتكا؛ من الأسلحة الرشاشة التي تستخدم ضد المدنيين، إلى الدبابات، ثم الطائرات المقاتلة وصولا إلى صواريخ سكود، وانتهاء بالسلاح الكيماوي، وإدانة الأخير فقط تعني تشريع كل الجرائم السابقة.

إن الزعماء والقادة هم القادرون على رسم الاستراتيجيات الكبرى وفتح الآفاق وتوسيع الرؤية، ويدعمون ذلك بالعزم والحزم، لا تلهيهم مشكلات الاقتصاد عن موازنات السياسة، ولا تشغلهم المشاكل الداخلية عن الصراعات الدولية، وهم دائما قادرون على مواجهة المشكلات الصعبة بقرارات أصعب.

يلتمس البعض شيئا من العذر لأوباما - وهو عذر يشبه الذم - بأنه حقق اختراقات مهمة في إنعاش الاقتصاد الأميركي وهو لا يريد الدخول في حرب مكلفة قد تؤدي إلى تحجيم نجاحه الاقتصادي، ولكن ذلك يجري على حساب مكانة الولايات المتحدة الدولية التي صارعت لنيلها عقودا من الزمن، ودفعت لأجلها المليارات تلو المليارات، وبنت تحالفات ناجحة وخرجت منتصرة، وأوباما فيما يبدو مستعد لخسارة كل تلك المكتسبات الدولية الكبرى لأجل مكتسبات آنية أصغر.

من الجيد هنا المقارنة بفرانكلين روزفلت، ذلك القائد التاريخي للولايات المتحدة الأميركية، فهو استطاع إنعاش الاقتصاد الأميركي الذي كان لم يزل يعاني من بقايا الكساد الكبير، وأدخل الولايات المتحدة في النزاعات الدولية لا كطرف، بل كقائد للحلفاء، بدخوله الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها بلاده إمبراطورية عالمية جديدة، وكان جزء مهم من ذلك النجاح نتيجة لقدرته على إضعاف تيار «الانعزالية» الذي كان عالي الصوت داخل أميركا بعد الحرب العالمية الأولى.

على العكس من روزفلت يصنع أوباما، فهو جاء مغرما بشعارات الانسحاب من الحروب والانكفاء على الداخل في سياسات تنتمي في مجملها إلى تيار الانعزالية، ولكنها ستكون باهظة الثمن.

إن إقرار أوباما المتكرر بصعود روسيا الاتحادية كقوة دولية ستكون له تبعات سلبية على الولايات المتحدة الأميركية، ومن ذلك أن كثيرا من حلفائها عبر العالم سيأخذون في التشكيك في جدوى تلك التحالفات حين تخذلهم في لحظات الأزمات الكبرى، وسيسعون لإعادة بناء تحالفاتهم القديمة بالتقليل من الارتباط بأميركا لمصلحة غيرها من الدول الغربية، وببناء تحالفات جديدة مع دول أخرى، والأمران معا لهما تبعات مهمة ومؤثرة على مكانة أميركا الدولية، وبالتالي على اقتصادها.

ثمة تساؤل مهم هو: أي استراتيجية يديرها أوباما تجاه المنطقة؟ وإذا كان متعثرا تجاه القضية الفلسطينية، ومخطئا تجاه ما كان يعرف بالربيع العربي، ومترددا تجاه الأزمة السورية، فكيف يمكن تصور موقفه تجاه قضايا أصعب وأكثر تعقيدا وخطورة كالنووي الإيراني مثلا؟

أخيرا، فقد بلغ من سوء الأحوال المضحكة المبكية - وشر البلية ما يضحك - أن الأسد بنفسه بعد أن وافق على تسليم أسلحته الكيماوية خانعا ذليلا تحت تهديد الضربة يعود ليشترط على أوباما أن يخفف من عدوانيته، ويمد في تواريخ التسليم، ويماطل في آليات التنفيذ.

[email protected]