من يتذكر الآن؟

TT

قبل أيام قرأت في جريدة «الشرق الأوسط» عن مسابقة ظريفة. المسابقة هي في قوة الذاكرة، والقدرة على تذكر أكبر قدر ممكن من المعلومات.

الألماني (يوهانيس مالوف - 32 عاما) بطل هذه المسابقة، أخيرا، استطاع بعد النظر إلى 52 ورقة «كوتشينة»، وبعد 40 ثانية فقط، وضع هذه الأوراق جانبا، ثم بدأ يرتب أوراق «كوتشينة» أخرى بنفس ترتيب الأوراق الأولى التي نظر إليها.

علماء الأعصاب والمتخصصون شرحوا تقنيات متخصصة يتدرب عليها العارفون للحفظ، وربط الأشياء بعضها ببعض، من خلال تخصيص علامات معينة لها في الذاكرة (قصص) تربط بها كما قال مالوف. والمثير أن مالوف يعاني ضمور عضلات شديدا في جسده، وهو شبه معاق، لكنه عوض عن هذا باستخدام قوة العقل. يقول «أحتاج لرأسي فقط».

مالوف يقول أيضا «أنا راضٍ عن حياتي، ولولا مرضي لما أصبحت على الأرجح متقدما بهذا الشكل». غير أن أكثر عبارة مؤثرة في كلام هذا الشاب الألماني المدهش هي قوله «لم أعثر بعد على السقف الذي يحد قدراتي».

ذكرتني هذه المسابقة بالعجائب التي تروى في تراثنا عن قوة الحفظ والذاكرة، بعضها يرقى لدرجة من الغرابة ربما تفوق ما فعله الشاب الألماني يوهانيس مالوف.

تروي لنا كتب التراث الإسلامي عجائب عن قوة الحفظ، سواء لرواة الشعر والقصص، مثل المفضل الضبي وخلف الأحمر والمبرد والأصفهاني وحماد الراوية والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد، أو رواة الحديث والآثار والأحكام، مثل يحيى بن معين وابن المديني والبخاري. بل حتى الخلفاء والسلاطين كانت لهم قصص نادرة في قوة الذاكرة، كما يروى عن الخليفة العباسي القوي أبي جعفر المنصور، الذي توصل إلى حيلة ظريفة لمنع العطاء عن شعراء المديح، حيث يقال إنه كان له غلام يحفظ من أول مرة، وجارية تحفظ من مرتين، وهو يحفظ من الثالثة، فكلما أنشده شاعر قصيدة اتهمه بأنها مسروقة وبأن غلامه يحفظها، ويأمره بإنشادها، وكذلك جاريته، بل وهو.. وهكذا تطير الدراهم من حلم الشاعر المستجدي.

مما يروى عن البخاري، محمد بن إسماعيل، صاحب أشهر مدونات الحديث النبوي، أنه كان شديد الحفظ من يفاعته، ويقول عنه أبو بكر الكلوذاني «ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل، كان يأخذ الكتاب من العلماء فيطلع عليه اطلاعه فيحفظ عامة أطراف الأحاديث بمرة واحدة».

وتعتبر قوة الحفظ أمرا طبيعيا في العهود السابقة لعهد التلفزيون والتليفون والضجيج، لدى الكل، ومنهم رواة الأدب العامي في الجزيرة العربية، غير أن ما يسجل لهذا الشاب الألماني هو قدرته على إبقاء ذاكرته «نظيفة» حية، في عصرنا هذا، عصر الضجيج والتلوث والثرثرة.

مهما تطورت التقنية، تبقى التقنية الطبيعية هي الأساس، وهو المعول عليه، خصوصا مع هذه الصور والأخبار القبيحة التي تحيط بنا إحاطة سور السجن.