هل دخل مؤتمر مدريد دائرة لزوم ما لا يلزم؟

TT

يتجاذب عملية السلام في الشرق الأوسط تياران معاكسان: واحد ينحو في اتجاه التجميد القسري للتسوية مع اقتراب استحقاق الانتخابات الاميركية الرئاسية، والآخر ينحو في اتجاه التحريك القسري وانجاز التسوية قبل انتهاء ولاية بيل كلينتون الرئاسية.

وفي الحالين تحافظ سوريا وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني ولبنان على استعداداتها لمرحلة ما قبل وما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، وقد أدركت ان استمرار المفاوضات والاتصالات بات جزءاً لا يتجزأ من دينامية النزاع العربي ـ الاسرائيلي وفرص انهائه.

صحيح ان تغليب عامل السلام على عامل الحرب في المنطقة خفف من حدة النزاع في وجهه العسكري، لكنه في الوقت نفسه لم يخفف من حدة النزاع في وجهه السياسي، والدليل ان الجهود لإحلال السلام بقيت على تعثرها، ونقاط الخلاف المحورية بقيت على تعقيداتها.

وبعد مرور زهاء عشر سنوات على انعقاد مؤتمر مدريد، لم تتطور سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني الى دولة، واضطر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الى ان يؤجل الاعلان عنها مرتين: في المرة الاولى كان الاعلان مقرراً في الرابع من ايار (مايو) من العام 1999، وفي المرة الثانية كان في 13 ايلول (سبتمبر) الجاري، وعسى ان تكون المرة الثالثة ثابتة! اما في شأن مسألة القدس فما زالت عالقة من دون حل، على الرغم من الاتصالات الجارية على قدم وساق بين عواصم القرار العربي والدولي. ولا شك ان هذه المسألة تعيق مشروع اعلان الدولة الفلسطينية، وتتقدم على كل ما عداها من المسائل. ولا افهم كيف تبغي اسرائيل سلاماً مع الفلسطينيين والعرب فيما تتشبث بادعائها السيادة الكاملة على كل القدس؟ ولا افهم كيف تريد الادارة الاميركية تحقيق السلام الفلسطيني ـ الاسرائيلي فيما تنحاز كلياً الى جانب اسرائيل في حل هذه المسألة؟

بالاضافة الى مسألة القدس تبرز مشكلة الشتات الفلسطيني. واذا كانت هذه المشكلة لا تتقدم على مسألة القدس ولا تحول دون اعلان الدولة الفلسطينية، فهي بحد ذاتها متشعبة ومعقدة وتحتاج بدورها الى حل لم يتوافر بعد. ولا اشك ان الجهات العربية المعنية بها مباشرة، وهي الأردن وسوريا ولبنان، تفضل لو ان هذه المشكلة تحتل الأولوية في المفاوضات على المسار الفلسطيني. لكن اسرائيل تعارض هذا الامر وتطرحه في اطار المفاوضات المتعددة الأطراف، مما حمل لبنان على ادراج مسألة عودة الفلسطينيين الى ارضهم على جدول اي مفاوضات قد تتم معه في المستقبل.

وبعد كل الصولات والجولات بين سوريا واسرائيل ما زالت مسألة مرتفعات الجولان تنتظر القرار الاسرائيلي بالانسحاب الى خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، مع العلم ان الكل يعرف انه لا مجال لأي تسوية مع دمشق خارج الانسحاب الكامل من الاراضي السورية المحتلة. مما يدفع بالكثيرين ـ وانا منهم ـ الى التساؤل عن جدوى مؤتمر مدريد، طالما ان الوقت يمر دون احراز اي تقدم ملموس باتجاه التسوية الشاملة. وعوض ان تتجاوب اسرائيل مع متطلبات السلام مع سوريا، نراها تارة تتهم دمشق بانها ليست مستعدة له، وتارة تعطل المفاوضات لحجج وأعذار مختلفة.

وحده لبنان، ومن دون ان يتأثر بمفاعيل مؤتمر مدريد، نجح في تحرير ارضه عن طريق المقاومة. لكنه، مثله مثل سوريا والسلطة الفلسطينية، يبقى طرفا معنيا بالنزاع العربي ـ الاسرائيلي. فهو يرفض من جهة المشروع الاسرائيلي الرامي الى توطين الفلسطينيين ويطالب بحق عودتهم الى ارضهم، ويدعو من جهة اخرى الى ضرورة انسحاب اسرائيل من الجولان لاتمام التسوية السلمية واعتبارها مدخلاً واقعياً الى السلام.

ولا ينفك الرئيس اللبناني اميل لحود يكرر امام زواره ان لبنان دخل مرحلة الهدنة مع اسرائيل ولم يدخل بعد مرحلة التسوية ما دامت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين عالقة وهضبة الجولان محتلة. فكما تضامنت سوريا مع اميل لحود لتحرير الجنوب، فهو متضامن مع دمشق لتحرير الجولان، ودمشق متضامنة معه لمنع توطين الفلسطينيين.

كل هذا يحملنا على القول ان الاطراف العربية لم تحقق بعد اهدافها على نحو ما كانت تأمل عند قبولها المشاركة في مؤتمر مدريد، وقد يكون احد الاسباب الرئيسة هو ان الداعي الاميركي له حينذاك جورج بوش لم يتمكن من تجديد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة الاميركية، فتبدلت المعادلات بتبدل الرئيس الاميركي.

ومنذ ثماني سنوات حل بيل كلينتون محل جورج بوش واتبع سياسة الايحاء لدفع الاطراف باتجاه السلام، في حين كان سلفه يتبع سياسة الضغط لحمل الاطراف على القبول بالتنازلات والتسويات الصعبة. وافادت اسرائيل من تبدل السياسة الاميركية للخروج على مبادئ مؤتمر مدريد ومساره.

ومع اقتراب نهاية ولاية بيل كلينتون، وبانتظار الرئيس الاميركي الجديد، وفي ضوء المتغيرات التي طرأت على اوضاع الشرق الاوسط منذ عشر سنوات، وبالنظر الى المتغيرات المرتقبة في المرحلة الآتية، اتساءل هل بات مؤتمر مدريد من الضرورات ام دخل دائرة لزوم ما لا يلزم؟

وكي ندرك بعض هذه المتغيرات، لا بد من التأمل بتطورات ثلاثة مرتقبة: اولها، ماذا سيكون مصير حكومة ايهود باراك في الاشهر القليلة القادمة؟ وثانيها، الى اي حد سيصل التقارب بين دمشق وياسر عرفات؟ وثالثا، ماذا سيحصل في شأن رفع الحصار عن العراق؟

واذكر في هذا الاطار ان سوريا اعلنت منذ فترة قصيرة على لسان وزير خارجيتها فاروق الشرع انها تدعو الامم المتحدة الى بحث موضوع التسوية في الشرق الاوسط. استغربت في البداية هذه الدعوة، واظن ان دمشق باتت مقتنعة بأن مؤتمر مدريد تخطاه الزمن وانه لا بد من العودة الى الامم المتحدة لتنفيذ قراراتها الدولية في شأن الأراضي العربية المحتلة، كما تم تنفيذ القرار 425 في شأن الاراضي اللبنانية المحتلة.

مؤتمر مدريد بات من الماضي... او بالأحرى بات من باب لزوم ما لا يلزم.