المثقفون الفرنسيون : نحن شرف فرنسا!

TT

خلال زيارته الاخيرة إلى فرنسا التي تمت في شهر يوليو (تموز) الماضي، حرص الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على استقبال بعض من تبقوا على قيد الحياة من المثقفين الفرنسيين الذين رفعوا اصواتهم عالياً مطلع خريف 1960، ليدينوا «الحرب المجنونة» التي تدور رحاها في الجزائر بين الجيش الفرنسي والوطنيين الجزائريين بقيادة جبهة التحرير وذلك عبر بيان شهير وقعه 121 مثقفاً فرنسياً بينهم مفكرون وكتاب مرموقون من امثال جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار والممثلة الشهيرة سيمون سينيوريه، ومارجريت دوراس وكلود سيمون الحائز في ما بعد جائزة نوبل للآداب، والناقد المرموق موريس بلانشو. وخلال ذلك اللقاء، روى الرئيس الجزائري لهؤلاء لقاءه بفرنسيس جينسن، صاحب فكرة البيان وذلك عام 1966 وكيف انه رد على تشكراته وتشكرات الشعب الجزائري والقيادة الجزائرية على ذلك قائلا: «وماذا تعرف انت من فرنسا سوى بيجو وبيجار (جنرالان فرنسيان عرفا بقوتهما خلال الحرب ضد الوطنيين الجزائريين) انت تتحدث إلي كما لو انني خائن لبلادي. من اليوم فصاعداً، عليك ان تعلم انني ورفاقي قمنا بواجبنا، ذلك اننا الوجه الآخر لفرنسا. نحن شرف فرنسا!».

البيان الصاعقة وعن صدى هذا البيان لدى الوطنيين الجزائريين، يقول الرئيس الجزائري السابق احمد بن بيلا: «لقد دوى بيان الـ 121 كما لو انه صاعقة، بالنسبة لنا نحن قادة الثورة الجزائرية، كما بالنسبة لاعداد وافرة من الجزائريين. ان هذا البيان جنبنا، وهذا ما يجب الاعتراف به، مشاعر قبيحة. لقد جنبنا الحقد والكراهية، لقد كانت معركة التحرير مرعبة وقاسية. كان الاستعمار قد اتعبنا وأثخن اجسادنا بالجراح. وذلك البيان جاء ليذكرنا بان الشعب الفرنسي لا يمكن اختصاره في الحرب التي كانت تضربنا بشدة. لقد كان هناك فرنسيون إلى جانبنا يعيشون نفس الظروف السيئة التي كنا نعيشها. والشعب الفرنسي كان هو ايضا شعبا عظيما حاملا لتاريخ عريق ولعبقرية خاصة به. لم نكن وحدنا. ولم يكن الذين ساندونا خونة، بل بالعكس هم كانوا يعبرون عن الجانب الافضل لدى فرنسا. ونحن كنا نعرف ذلك، لذا كان تأثير البيان فينا كبيراً».

لكن ما هي قصة هذا البيان ومن هم اصحابه؟

الحقيقة ان مناهضة المثقفين الفرنسيين للحرب الدائرة في الجزائر بدأت قبل صدور البيان المذكور بسنوات، وتحديداً في عام 1956 وعام 1957 غير ان رد الحكومة الفرنسية العنيف ضد هذه المناهضة والذي تجسد عبر ايقافات ومحاكمات وفصل من الوظيفة، أبطل مفعولها، وجعلها غير ذات تأثير مهم في الرأي العام الفرنسي. ثم ان جميع الاحزاب المعارضة بما في ذلك الاشتراكية والشيوعية، كانت تساند بشكل او بآخر هذه الحرب، مقدمة تبريرات ايديولوجية واهية ودالة على جهل بالحقائق وبالواقع الحقيقي لذلك الصراع المرير المتواصل منذ سنوات عدة. كما ان هذه الاحزاب اليسارية والتقدمية التي اضعفتها انتخابات عام 1958 التي دفعت حزب الجنرال ديجول إلى السلطة، كانت تعارض بشدة المفاوضات مع جبهة التحرير الجزائرية. وفي نهاية الخمسينات وبداية الستينات، كانت الحرب المستمرة منذ ست سنوات قد احرقت الاخضر واليابس من دون ان يبرز في الافق ما يمكن ان يدل على قرب نهايتها. فقد استمرت الحكومة الفرنسية في تعنتها، رافضة لأي تفاوض مع جبهة التحرير الجزائرية، كما ان الجيش الفرنسي بقيادة جنرالات عديمي الذمة واصل التخريب والقتل والتعذيب وحرق القرى والمداشر. وبالرغم من ان الجنرال ديجول كان قد بدأ يفكر ان الاستقلال الداخلي يمكن ان يكون الحل لتلك «الحرب القذرة» فانه رفض هو ايضا رفضا قاطعا فتح باب التفاوض «مع المتمردين».

امام هذا الوضع الخالي من اي امل، شرع بعض المثقفين سراً في التشاور بهدف اتخاذ موقف حازم ليهتدوا في النهاية إلى ضرورة اصدار بيان سرعان ما كان له وقع مدو داخل الرأي العام الفرنسي وداخل جبهة التحرير الجزائرية. في بداية ذلك البيان، كتب الموقعون عليه يقولون: «ثمة حركة مهمة تتطور في فرنسا، ومن الضروري ان يكون الرأي العام الفرنسي والعالمي على علم بها، خصوصا في هذه الفترة التي سوف يجبرنا فيها المنعرج الجديد الذي اتخذته الحرب في الجزائر ان نرى، لا أن ننسى عمق الازمة التي انفجرت قبل ستة اعوام». وفي نهاية البيان المذكور، يعلن الموقعون عليه انهم يحترمون ويتفهمون رفض حمل السلاح ضد الشعب الجزائري ومواقف فرنسيين يرون انه من واجبهم توفير المساعدة والحماية للجزائريين المضطهدين باسم الشعب الفرنسي وقضية الشعب الجزائري التي تساهم بشكل حاسم في تخريب النظام الاستعماري، معتبرين ان هذه القضية هي في النهاية قضية جميع الرجال الاحرار في العالم بأسره.

ديغول صنيعة المؤسسة العسكرية حال صدور البيان، انفجر غضب الحكومة الفرنسية ورد الجنرال ديجول على اصحابه من خلال كلمة شديدة اللهجة توجه بها إلى الامم المتحدة يوم 5 سبتمبر (ايلول) 1960 وفيها قال: «ان فرنسا هي الوحيدة التي لها الحق في التدخل في الشأن الجزائري الذي هو شأنها وليس شأن أي طرف آخر» من ترى يظن ان فرنسا يمكنها ان تتفاوض مع متمردين بخصوص مستقبل الجزائر؟ هذا معناه إن حصل أن حق الرشاشة اقوى من حق الاستفتاء العام». في ذات اليوم الذي ألقى فيه الجنرال ديجول كلمته هذه، تم ايقاف فرنسيس جينسن صاحب فكرة البيان والبعض من رفاقه وقدموا للمحاكمة. كما تم تعطيل العديد من الصحف التي نوهت بالبيان واصحابه وفصل الاساتذة الذين وقعوا على البيان من وظائفهم.

غير ان الرأي العام الفرنسي الذي كان قد بدأ يمل من الحرب ومضاعفاتها واجه هذه السياسة المتشددة في الخطاب وفي الاسلوب بالرفض والتنديد. بل ان رئيس تحرير جريدة «لاكروا» المسيحية المحافظة كتب يقول ان «الشبان الذين يرفضون القيام باعمال شنيعة يساندهم الحق والقانون والاخلاق». اما الطلاب الفرنسيون فقد عبروا عن مساندتهم للبيان واصحابه وذلك خلال اجتماع ضخم نظمه «الاتحاد الوطني لطلاب فرنسا»، وذلك يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) 1960. والحقيقة ان محاكمة اصحاب البيان كما يقول الشيوعي الفرنسي هنري الاج «كانت خطأ فادحا من قبل الحكومة الفرنسية. ذلك ان البيان يجسد موقف بعض الفئات داخل الشعب الفرنسي. كما انه يكشف، ربما خصوصا، تطور المعارضة البطيء لكن المستمر في الاتساع للمغامرة العسكرية وللطرق البربرية التي ترافقها».

ومعبرا عن موقفه تجاه محاكمة جماعة فرنسيس جينسن، قال سارتر: «يجدر بي هنا ان ابدد لبساً: التضامن الذي اظهره فرنسيس جينسن مع الوطنيين الجزائريين لم تمله فقط المبادئ النبيلة ولا الارادة العامة في مكافحة القمع في اي مكان يتجلى فيه، وانما هو متأت من تحليل سياسي للوضع في فرنسا نفسها. استقلال الجزائر شيء لا بد ان يتم. وربما سوف يتحقق بعد عام او بعد خمسة اعوام باتفاق مع فرنسا او ضدها».

حرب دموية شرسة ويواصل سارتر كلامه قائلا: «ان الفرنسيين الذين يساعدون جبهة التحرير الجزائرية ليسوا مدفوعين فقط بعواطف نبيلة تجاه شعب مضطهد، وهم لا يخدمون قضية اجنبية، وانما هم يخدمون انفسهم ويعملون من اجل حريتهم ومستقبلهم ومن اجل اقامة دولة فرنسية ديمقراطية (..). ولو طلب مني فرنسيس جينسن ان احمل الحقائب وأن أأوي مناضلين جزائريين، وكنت قادراً على ذلك من دون ان اسبب لهم مخاطرة لفعلت ذلك دونما تردد!».

عقب ذلك بعام واحد فقط، كان على الحكومة الفرنسية بقيادة الجنرال ديجول ان تتراجع عن سياستها المتشددة، وتمنح الجزائر استقلالها، منهية بذلك واحدة من افظع وأشنع الحروب التي عرفتها خلال تاريخ امبراطوريتها الاستعمارية الطويل.