أمريكا: كلام ودّي وجميل والمهم: المصداقية العملية والثبات

TT

هل يستوي الذم والمدح عند عقلاء الناس وأسويائهم وكرمائهم؟.. لا يستويان .. وليس يوجد عاقل سويّ يمتلئ فرحا بالذم، ويضيق ذرعا بالثناء. واذا كان المسلمون يبتئسون بالاستخفاف بدينهم، والحط من قدرهم، فهم يغتبطون بالثناء على دينهم، وبالتقدير لمكانتهم. بيد أن في الأمر ـ الذي معنا ـ : عفوا وتعقيدا، بداهة وتفسيرا.. وليبدأ الموضوع من مبدئه، ولينبثق من مناسبته.. والموضوع والمناسبة ثاويان في:

1 ـ ان مكتب المدعية العامة (ماري جو وايت) في الدائرة الجنوبية لمدينة نيويورك، كتب الى قاضي مانهاتن يقول له: «ان التعليمات الموجهة الى المحققين تنص على ضرورة عدم تشويه صورة المسلمين كجماعة بسبب جرائم يرتكبها نفر قليل منهم».. والظرف الزمني لهذه التعليمات هو التحقيق مع اناس مسلمين مدعى عليهم بالارهاب.

2 ـ ان (مادلين اولبرايت) ـ وزيرة خارجية الولايات المتحدة الامريكية ـ تحدثت في الوقت نفسه ـ اي الاسبوع الماضي ـ فقالت: «ليس لدى الولايات المتحدة اية مصلحة في الصدام مع الاسلام، بل العكس، لنا مصلحة جوهرية جدا تتراوح بين الاستقرار والتنمية وتوطيد حكم القانون، وهي مصالح مشتركة بيننا وبين معظم الدول ذات الغالبية السكانية المسلمة.. ويجب علينا التأكد من اننا نفهمهم ويفهموننا (أي المسلمون).. ومن الطبيعي ان تكون هناك اختلافات في الرأي. لكن هذه الفروق تكون بالتأكيد اقل خطرا لو اننا سلكنا كل سبيل لإزالة الصور النمطية المؤذية. وبهذه الطريقة يمكن ان نأمل بأن يشتهر القرن الجديد ليس بتصادم الحضارات الذي تم التكهن به، وانما بتقدم الحضارات الذي يتوقف عليه مستقبلنا جميعا.. واذا اردنا ان يفهم المسلمون امريكا، فعلينا ان نشجع الامريكيين على زيادة فهمهم للاسلام».

فهل هذا تحول في السياسة الامريكية وتطوير لها نحو الافضل في التعامل مع العالم العربي الاسلامي؟.. نرجو ذلك ونتمناه.. فليس من السعادة النفسية، ولا الراحة العصبية، ولا المصلحة السياسية والمعرفية والاقتصادية: أن يُكثّر المرء او الامة او الدولة عدد الخصوم، والا لوجب: انشاء علاقات عامة وظيفتها: تكثير الخصوم. يضم الى ذلك: انه غير عاقل، وغير عليم بموازين القوى، في هذه الحقبة، من يتجاهل (قوة التأثير) الامريكي في شؤون العالم وقضاياه. وثالث الحسابات: ان التلبس بأحد الخطأين الآنفين او بكليهما، انما هو: خدمة مجانية للشانئ الظلوم الذي ان دخل علينا مرة من حدودنا، فانه انما يتسلل الينا دوما من عيوبنا. ومن هذه العيوب: النزق في المواقف السياسية، وسوء الحساب في العلاقات الدولية.

سوابق مماثلة وكلام المدعية العامة: وايت، والوزيرة: أولبرايت، ليس فلتة لسان مفردة، اذ هو مسبوق بمنظومة من الكلمات المماثلة التي تكلم بها مسؤولون امريكيون كثر في مناسبات مختلفة: «ان امريكا تتفهم الاسلام دين السلام، وتحترم العالم الاسلامي».. (بيل كلينتون)... : «ان الولايات المتحدة تحترم الاسلام وتقدره فهو دين عظيم يدعو الى السلام والعدالة والمحبة والتسامح والتعايش».. (آل غور)... : «لقد اوضحنا: الوزير كريستوفر وانا: اننا ننظر الى الاسلام باحترام كبير، فالاسلام هو احدى الحركات الحضارية في التاريخ التي اثرت حضارتنا نحن. وقد شيدت الحضارة الاسلامية على مر السنين، صرحاً للقانون يحوز الاعجاب. ان دراسة انجازات مدارس القانون الاسلامي: الحنبلية والحنفية والشافعية والمالكية ودقتها وبراعتها قد شغلت العلماء على مدى قرون. ويمكن لمراكز تعليم نماذج الحضارات ان تتعهد وترعى مبدأ الاجتهاد الذي يتحرى تلبية المجتمعات الحديثة بفقه جديد لتعاليم الشريعة.. ليس هناك اي معركة بين الاسلام وبين حكومتنا. فنحن نحترم الاسلام كواحد من اعظم الاديان في العالم. ومن هنا فان الولايات المتحدة الامريكية لا تعتبر الاسلام: الآيديولوجية البديلة (البديلة للشيوعية) التي تقف في مواجهة الغرب، او تهدد السلام العالمي».. (روبرت بيلترو) مساعد وزير الخارجية الامريكي للشرق الادنى... : «لن يحدث اي تصادم او معركة بين الحضارات في الشرق الاوسط. فالبعض يوحي بحدوث تصادم بين العالم الغربي والحضارات النابعة من الاسلام في فترة ما بعد الحرب الباردة، كما يعتقد البعض ان الولايات المتحدة، بعد ان أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم، ستبحث عن مذهب جديد لتدخل معه في حرب. وهكذا فأمريكا وفق هذا التصور تتجه الى شن حرب صليبية جديدة ضد الاسلام، ونحن نرفض هذا الزعم رفضا مطلقا».. (انتوني ليك) مستشار الرئيس كلينتون السابق للأمن القومي.

ومن قبل قال الرئيس الامريكي الاسبق (ريتشارد نيكسون)... : «قليل من الامريكيين يدركون مدى عراقة العالم الاسلامي، انهم يذكرون فقط ان سيوف محمد وأتباعه هي السبب في انتشار الدين الاسلامي، في افريقيا وآسيا وحتى اوربا، وينظرون بارتياح الى الحروب الدينية بالمنطقة. لقد تناسى هؤلاء: ان الاسلام لا يقر الارهاب، وانه لم تمض الا ثلاثة قرون مند آخر حرب دينية في اوربا. وبينما نطور سياستنا لنتعامل مع العالم الاسلامي، علينا ان نبدأ بالاحترام والتقدير للشعوب التي تشعر بالأسى والالم لأن الغرب قد اساء فهمها، ووقف ضدها واستغلها. ويجب علينا ألا نفرض عليهم آراءنا ومفاهيمنا».

هذه نظرية كلامية كاملة تقريبا، بمقياس منهج تحليل المضمون، او بمقياس (المصدرية) الموحدة، او بمقياس التتابع المتماثل.

احتمالات التفسير وباستبعاد ان يكون الكلام: ارتجالا، او مصادفة، أو مطلق عشق للعرب، او محض هيام بحب المسلمين.. باستبعاد ذلك، يمكن تفسير الكلام الامريكي: الودي الجميل بأحد هذين التفسيرين المحتملين:

1 ـ ان يكون هذا الكلام الودي ـ ولا سيما الكلام الأخير من حيث التوقيت ـ:

أ ـ امتصاصا او تفريغا لموجات الغضب التي تصطرع في نفوس العرب والمسلمين بسبب مواقف عديدة مجحفة.

ب ـ تهدئة تخديرية للعالم الاسلامي بين يدي تسوية ظالمة متعسفة في قضايا القدس واللاجئين الفلسطينيين على وجه الخصوص.

ج ـ استهلاكا انتخابيا يقصد به جذب اصوات الناخب الامريكي المسلم.

ويقع هذا كله في دائرة الخدعة والتمثيل. وهذا لعب مدمر يأتي بعكس المقصود. لأن رد الفعل ـ حين يكتشف التمثيل ـ سيكون فقدانا للثقة على الآماد القصيرة والطويلة بين امريكا ومسلمي العالم، ومن ثم تصبح التقديرات المصلحية الآنية المبنية على التمثيل والخداع: خسائر هائلة بالمعيارين: المادي والمعنوي.. ومن الصدق والشفافية في التعامل مع امريكا: ان تصارح بذلك، لأنه لا ينبغي ان تكون العلاقة الدولية فخاخا وكمائن، لا يبصر طرف ما الفخّ حتى يقع فيه.

2 ـ التفسير الثاني المحتمل هو: ان تكون امريكا قد راجعت ـ بعمق وبمزيد من الحرص على مصالحها ـ سجلها مع الامة العربية الاسلامية، ورأت بناء على نتائج المراجعة: ان صورتها لدى الشعوب العربية الاسلامية، قاتمة شائهة، وان وراء القتامة والتشوه عوامل كثيرة هي من صنع الامريكيين انفسهم، وانه ـ بمنطق امريكي خالص ـ : يتعين تحسين هذه الصورة من حيث ان التحولات والظروف الدولية الجديدة ـ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ـ تُحمل امريكا مسؤولية عقلانية وأخلاقية كبرى تجاه شعوب العالم، ومنها شعوب الاسلام.

ونحن نأمل ان يصح التفسير الثاني ويرجح، لأن ذلك من مصلحتنا، ولأننا لا نفرح بأن يخطئ الآخرون، بل نفرح حين يصيبون.

بيد ان للصواب مقياسا عمليا، بمعنى: ان ترجيح التفسير الثاني مشروط بالتصديق العملي للكلام الامريكي الودي الجميل: أي مشروط بأن للاسلام منهجه التشريعي المختلف ـ بحكم مصدره ومقصده ـ على التشريعات الوضعية في مجالي: القانون المدني والجنائي، وهو تميز قانوني اسلامي بسّط القول فيه ـ منذ قليل ـ : روبرت بيلترو .. ومشروط بأن للمسلمين حق اختيار هذا التشريع، وحق ان يحكموا به انفسهم في الحياة الاجتماعية والثقافية والروحية، وفي الانظمة القضائية والسياسية.. ومشروط بأن يُعرف للمسلمين حقهم ومكانتهم في (القدس)، فلا يعتدى على هذا الحق، ولا يؤصل هذا العدوان بهذه السياسة أو تلك: التفافا، او تمييعا، او تفريغا.. ومشروط بالحرص على مصالح العرب والمسلمين الاقتصادية.

ونلمح في الكلام الامريكي الأخير ـ الذي قيل في الاسبوع الماضي ـ : تركيزا على (نبرة) المصلحة او المصالح. وهذا توجه نفعي جيد. فالبشر تفرقهم الألوان والعقائد والمواقع الجغرافية، ولكن تجمعهم (المصالح) فلهؤلاء المختلفين: عقديا وعرقيا: مصالح مشتركة: سياسية، وعلمية، وامنية، واقتصادية، ولو توقفت المصالح على (التطابق العقدي) مثلا، لأهدرت مصالح حيوية هي قيام للناس.. ومن هذه المصالح التي ينبغي ان ترعى ويوفى بها: المصالح الاقتصادية. وانما يكون الوفاء بالتوازن العادل في العلاقات الاقتصادية، الذي لا يعتريه تطفيف ولا هضم ولا بخس، لا في اسعار المواد الخام المصدرة من العالم العربي الاسلامي، ولا في السلع الصناعية المصدرة الى هذا العالم، ولا في تكييف (العولمة) على نحو يزيد الشمال رخاء ورفاها ويزيد الجنوب جدبا وتدنيا في المعايش. ان المسلمين ليسوا (معنى مجردا) لا يُرى بالعين المجردة ولا بالعدسة المقربة او المكبرة، بل هم كيان معنوي ومادي واقعي ملموس ومشاهد، ولذا فان (احترام) المسلمين يعني: التقدير العملي المناجز لوجودهم وحياتهم ودينهم. ويعني ـ كذلك ـ عدم الإضرار بأمنهم وسلامتهم وحقوقهم واقتصاداتهم ومعايشهم وفرصهم في التقدم المعرفي: العلمي والتقني.

وليس للأمريكيين مصلحة ـ قط ـ في الاعتراض على شيء من ذلك، لأنه لا شيء من ذلك يتناقض مع مصالحهم الحيوية العادلة. فليس ثمة قاعدة علمية تقول: «يستحيل ان تتقدم امريكا وتسعد الا بتأخر المسلمين وتعاستهم».. لكن التناقض ينشأ من (الأهواء)، لا من المصالح: هوى التصورات والمفاهيم الصهيونية التي تتسلل الى القرار والموقف الامريكي.. وهوى الدراسات الاستراتيجية المتأثرة ـ بنسبة ما ـ برؤى غلاة المستشرقين.. وهوى الاصغاء لأصوات في العالم العربي الاسلامي مبهورة بكل شيء امريكي ـ بما في ذلك الاخطاء !! ـ شديدة الحط من قدر امتها. فهؤلاء (غشاشون دوليون) يفسدون العلاقة بين الحضارتين: الاسلامية والامريكية، وينزلون الضرر الجسيم بمصالح الطرفين.. وهوى تضخيم (الأفعال) والاقوال الطائشة التي تصدر عن افراد مسلمين او جماعات دينية.. وهوى الغلو في النموذج الحضاري الامريكي غلواً ارتبط بالميل الشديد الى فرض النموذج بهذه الصورة او تلك.

وهذه كلها اهواء لن تخسر أمريكا ذرة واحدة من المصالح اذا هي تحررت منها. بل ان من صميم مصلحتها: ان تتحرر منها، وان تستدبرها باطلاق، مستقبلة القرن القادم بنفسية جديدة، وعقلية جديدة، واساليب جديدة للتعامل المريح والمثمر مع العالم العربي الاسلامي.