عشرون عاما من الكذب

TT

في خضم هموم العالم العربي الكثيرة والكبيرة، وعلى رأسها الهم السوري الأليم، تمر هذا الأسبوع عشرون عاما على المصالحة الشهيرة في حديقة البيت الأبيض بالعاصمة الأميركية واشنطن بين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، بإشراف الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون.. مصافحة صنعت تاريخا لحظيا ولكن مع الوقت تبين حقيقة من الذي استفاد منها. كانت حالة التفاؤل تسود الأوساط وتنبئ بسلام قادم ومزدهر، ولكن اليمين المتطرف في إسرائيل كان له رأي آخر، وتمكن أحد المنتمين إليه من اغتيال إسحق رابين «ومسيرة السلام» التي أطلقتها المصافحة الشهيرة هذه وجاءت تحت مظلة اتفاق أوسلو الشهير. فمنذ عام 1993 حتى عام 1999 أقامت 45 دولة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهذا كان عددا أكبر من كافة الدول التي أقامت علاقات مع إسرائيل خلال العقود الأربعة التي قبلها مجتمعة! الاقتصاد الإسرائيلي تحول إلى حالة ازدهار وطفرة غير مسبوقة نتاج الأموال المهولة التي تدفقت وانهمرت عليه بشكل مباشر وذهابها إلى الأراضي الفلسطينية لأنها كانت أساسا ستدفع من قبل الحكومة الإسرائيلية نفسها، مما خفف العبء عنها وجعلها تتفرغ وتتوجه بقوة لتنمية اقتصادها.

إسرائيل نالت «حلمها» باعتراف واضح وصريح من منظمة التحرير الفلسطينية الممثل «الشرعي الوحيد» للفلسطينيين بحقها في البقاء ومن دون أن يحصل الفلسطينيون من إسرائيل في المقابل على نفس درجة الاعتراف أبدا، بل على العكس تماما، استمرت إسرائيل في سياستها الاستيطانية التوسعية بضراوة مجنونة على الأراضي الفلسطينية، فبين عامي 1993 و2000 تضاعف عدد سكان المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية ليرتفع من 190 ألفا عام 1993 ليصل إلى رقم مذهل ومفزع متجاوزا 370 ألف نسمة سنة 2000، ليكون بذلك أعلى معدل ارتفاع استيطاني في تاريخ إسرائيل.

وطبعا تواصل حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو نفس الخط الاستيطاني لتعلن مؤخرا عن نيتها التوسع وتأسيس 1500 وحدة استيطانية جديدة على الرغم من «اعتراض» الولايات المتحدة ومخالفة ذلك الأمر لاتفاق أوسلو. ولذلك يبدو الأمر في منتهى الاشمئزاز أن يُسمح لإسرائيل بأن تستأنف مباحثات «السلام» مع الفلسطينيين من دون أن يكون هناك أي عقوبة عليها لجريمة الاستيطان وسرقة أراضي الفلسطينيين على مدى السنوات المتلاحقة.

الفلسطينيون لذلك لا يرون هذه المصافحة الشهيرة على أنها كانت مصافحة «سلام»، بل إنها مصافحة «استسلام» حققت لإسرائيل كل ما تريد دونما التنازل عن أي شيء ولا الإقدام الجاد والأمين والمخلص والحقيقي إلى طريق السلام، بحسب ما أقرت والتزمت ووقعت عليه. إسرائيل ستستغل عودة «مباحثات السلام» مجددا ليكون طريقها الرسمي لإنجاز مزيد من المستوطنات على أرض الواقع حتى يدخل ضمن حيز «الأمر الواقع» الذي يصعب، أو بالأحرى لا يمكن، تغييره على أرض الواقع فيصبح حقيقة وبالتالي يصبح أمرا مكتسبا لا رجوع عنه.

الفلسطينيون تفتتت أراضيهم بسبب الجدار والمستوطنات، وأصبح مشوار بسيط مثل ذهابهم إلى العمل أو زيارة أهليهم مسألة أشبه بالمهمة الشاقة والمستحيلة، وانعكس كل ذلك الأمر على الاقتصاد الفلسطيني نفسه الذي انهار ليكون اليوم أسوأ حالا وأقل إنتاجا ونموا من عشرين عاما مضت. إسرائيل لم تلتزم بإطلاق السجناء والأسرى ولم تلتزم بالانسحاب من الأراضي المحتلة ولا بالتسهيلات للفلسطينيين.

عشرون عاما كانت مجرد وعود كاذبة وخداع واستهتار بكل المواثيق والاتفاقيات والأعراف الدولية. حكومة إسرائيل هي أقرب منها للفاشية في تصرفاتها مع الفلسطينيين، تمارس معهم أسوأ الأساليب، ومع ذلك لا رادع لها.

كيف يمكن لإسرائيل أن تتحدث عن السلام ومباحثاته؟ ليس هناك أسوأ من إسرائيل إلا الساذج الذي يصدقها!