المرأة البريطانية وصناعة القرار السياسي

TT

ربما بدا الحدث مجرد خبر يخص قرار مسؤول بالتنحي عن مهامه الرسمية، لكن ان يتعلق الخبر، الذي حاز اهتمام وسائل الاعلام البريطانية، بامرأة في موقع رسـمي، فهو الحدث اللافت للانتباه، كونه مقياسا لمدى نجاح مشـاركة النساء في الحياة السياســية في العالم ككل. مو مولام، الوزيرة التي كانت مكلفة سابقا ملف شمال آيرلندا من قبل الحكومة العمالية في بريطانيا ثم نحيت عن مركزها في الخريف الماضي، اعلنت قرارها بعدم ترشيح نفسها للانتخابات البريطانية المقبلة التي ستجري بعد عام ونصف العام. وهو قرار يعني ضمنا ابتعادها عن العمل السياسي. اثار الخبر اهتماما واسعا لدى كثيرين ممن شاهدوا هذه السيدة مرارا في وسائل الصحافة والتلفزيون، تدلي بتصريحات عن سير العمل في ذلك الملف البريطاني الساخن، امرأة تلف شعرها بوشاح يخفي آثار علاجها من مرض خبيث لم يمنعها من التصدي بإخلاص لمشكلة وطنية تقضّ مضجع البريطانيين، بعد ان عاشوا حالة الذعر لسنوات طويلة بسبب العمليات التي كان يشنها الجيش الجمهوري الايرلندي في اماكن التجمعات البشرية. مشروع رجالي بحت وكان خبر اقالة هذه الوزيرة عن مهامها في الاساس قد اثار تعاطف بعض الاوساط الاعلامية والسياسية، فهذه السيدة معروفة بإخلاصها وجديتها في عملها، وهي نائبة عمالية وعضو ناشط في حزب العمال منذ سنوات طويلة، وواحدة من النساء اللواتي اتى بهن توني بلير الى حكومته عندما تسلم حزبه السلطة قبل ثلاث سنوات. وللتذكير، فقد كان الحزب استهل انتصاراته الانتخابية الكاسحة باستعراض جذاب لجديده الانتخابي، اذ زينت الصحف صور النساء اللواتي فزن بمقاعد البرلمان عن حزب العمال، ليتباهى الحزب ورئيسه بأكبر نسبة تمثيل نسائي تم تحقيقها في تاريخ «ام البرلمانات» حتى الآن. فهذا الحضور النسائي الاستثنائي يمثل اعمارا تتراوح بين العشرينات والاربعينات، لنساء قادمات من شتى المناطق الجغرافية، بينهن بعض الملونات ايضا. اجيال مختلفة وخلفيات اجتماعية متنوعة، اي عدالة وزوال للتمييز ضد النساء بعد ذلك!.. كانت الصور كافية لان تضفي لمسة من البريق على New Labour او حزب العمال الجديد، بحسب الشعار الذي اعاد الحزب لواجهة الحكم، بعد ان دحرهم المحافظون مدة 18سنة تقريبا. لقد وعد حزب العمال عند مجيئه ان يمنح المرأة فرصا قيادية اكبر في حكومته، لكنه لم يفعل سوى ان همّش بعض الناشطات، مثل كلير شورت، المسؤولة عن ادارة التجارة والصناعة، والتي لا يسمع صوتها الا لماما. اما صناعة القرار السياسي فهي تدور في دائرة ضيقة حول توني بلير، وصفتها البارونة كاسل في هجومها الاخير ضد الحكومة، بأنها «مشروع رجالي بحت». و كاسل امرأة تسعينية قضت عمرها عضوا نشطاً في الحزب، وهي واحدة ممن يمكن اعتبارهن، مع مخضرمين آخرين، ضمير حزب العمال، يراقبونه ويعلقون على نشاطاته كلما بدا لهم انه ينحرف عن خطه. من هذا المنطلق أعطت البارونة كاسل تصريحا لصحيفة «الاندبندنت» اعلنت فيه عن غضبها للاهانة التي وجهت لمولام، مما اضطرها الى الانسحاب من الحياة السياسية «لان نقلها الى مكتب رئاسة الوزراء يعني اللاعمل، وهو امر ترفضه سيدة تحترم نفسها».. حالة مو مولام ليست محلية بحتة، وعندما يستند اليها هذا المقال، فللتدليل على ما هو عليه وضع المرأة في المراكز القيادية على مستوى العالم، مع بداية الالفية الثالثة.

لقد نحيت هذه المرأة عن مهامها وهي التي كانت تؤديه بكل اخلاص، لان طرفا من المفاوضين الايرلنديين ـ الموالين ـ وصفها بـ«المتشددة». انتهت مهمتها ومسؤولياتها بهذا الوصف، واعتبرت فاشلة في الدور الذي اوكل اليها. ثم عيّن بيتر ماندلسون خلفا لها، وهو واحد من المقربين من بلير ومسؤول سابق اضطرته الضغوط الاعلامية قبل عامين الى الاستقالة بسبب فضيحة مالية. ورغم ذلك اعيد ماندلسون لواجهة النشاط السياسي، ليخلف مولام، وهو حتى الان لم يحقق انجازا مهما في هذه القضية يفوق ما حققته هي في الاتفاق المعروف باسمGood Friday ، الاتفاق الذي اوقف على الاقل شن عمليات التفجير من قبل الجيش الجمهوري الايرلندي على المواقع الحيوية البريطانية. مولام امرأة تملك الحماس والرغبة في العطاء والرؤية السياسية المستقلة، وقد جمد نشاطها بسبب كونها «متشددة»، الصفة التي تمنح للمرأة الجادة في عملها كقيادية، فتثير اعصاب زملائها من الرجال وسواهم، بينما يوصف الرجل في الموقف نفسه بـ«الحازم»، الصفة التي تليق بمسؤول يعرف كيف يدير ادارته ويتحكم بمعاونيه وموظفيه! التشدد صفة نسوية لا تعجب الرجال الذين يفضلون الزميلة مطيعة سلسة، تتمتع بمواصفات الابنة المطيعة او الزوجة المثالية!.. أنا هنا لتقديم الشاي فقط الا ان مو مولام كانت اعلنت قرارها بعدم ترشيح نفسها للانتخابات القادمة بهدوء، ولم تثر اي ضجة حولها بأي انتقاد علني للحكومة او قيادة الحزب. الاخرون هم الذين انبروا يحللون موقفها وينتقدون الضغوط التي اجبرتها على اتخاذ ذلك القرار. ويلاحظ المراقبون انه لم يصدر عنها من قبل اي مديح او مراءاة، لا لقيادة بلير وسياساته، ولا له هو شخصيا. وربما يكمن هنا مقتل السياسية النشطة، التي لم تفهم اصول اللعبة الذكورية، فهناك قائد وهناك حواريون من حوله، كما هو الحال في جميع الانظمة السياسية، ومن يختلف مع الرجل الكبير، يحترق.

يشير كتاب سيرة ذاتية عن حياة مولام نشرت اولى حلقاته هذا الاسبوع، انها تلقت اهانات بالغة من رئيس الحكومة وبعض زملائها الوزراء، اذ كان يتم يتجاوزها في كثير من الاحيان. من الامثلة على ذلك ما حدث اثناء زيارة بيل كلينتون لبريطانيا، اذ لم يترك لها بلير فرصة المشاركة في النقاش حول القضية الايرلندية وهي الوزيرة المكلفة شؤون تلك القضية، وعندما طلب كلينتون ان يسمع رأيها قالت له بمزاح مرّ: «انا هنا لتقديم الشاي فقط».

الكاتبة البريطانية آن ماك إلفوي، وصفت وضع مولام، انها «ضحية كنيسة حزب العمال الجديد». يبدو هذا التوصيف بليغا ملخصا لواقع النساء، لانه يذكرنا بالكهنوت، المهنة ذات الامتيازات والغموض والتحكم بسكان المكان، والتي كانت مقتصرة تاريخيا على الرجال.