تسعون يوما في السجن

TT

لا ادري لماذا ارتبط اسم نيويورك بالعنف. في القصة شيء من المبالغة، وهذا ما يؤكده اهلها دائما، مذكرين الجميع بأن المسألة نسبة وتناسب، وان معظم سكان المدينة يقطنون متزاحمين في غابة من الخراسانات العالية الارتفاع.

وأعتقد ان في غضبهم الدائم من تشويه صورتهم في انحاء العالم شيئا من الصحة، فالمدينة تبدو مسالمة، وإنا كنا جيرانا لحادثة قتل احتلت تفاصيلها الصحف المحلية. ففي نفس الشارع الذي نقطنه، ماديسون، سُمع إطلاق اعيرة نارية. وعندما هب الجيران لمعرفة ما حدث وجدوا احد ملاك العمارات وفي يده بندقية افرغها في صدر واحدة من سكان عمارته. خلاف جيران كالعادة، وسال الدم بسبب تأخر السيدة في دفع الايجار. يبدو انها غضبت منه هذه المرة بسبب إلحاحه فجاءته تخاصمه وفي يدها مطرقة، فما كان منه الا ان لجأ الى بندقيته ـ كما يقول ـ دفاعا عن النفس. لكن بطبيعة الحال لن يجد احداً سيقتنع بأن التأخر في دفع الايجار يوجب القتل ولا حمل مطرقة صغيرة في يد عجوز يستأهل الرد ببندقية تصطاد بها عادة الاسود والدببة.

والظلم هو حديث الصحف الاميركية هذه الايام بعد ان وقف قاضي محكمة فيدرالية وأعلن عن بطلان دعاوى رفعها مدعي الحكومة ضد عالم من اصل صيني يشتغل في معمل ذري بتهم خطيرة من بينها محاولة نقل اسرار الى جهات اجنبية. وقد فاجأ القاضي الجميع عندما وقف وقال انه لم يجد في دعاوى الحكومة شيئا ملموسا ضد المتهم واعتبرها محاكمة باطلة، وامر باطلاق سراحه فورا. كما اعتذر القاضي علانية للمتهم قائلا: انهم خدعوني بالاستمرار في الاستماع الى الشكوى. وضم الرئيس بيل كلينتون صوته الى صوت القاضي متبرئا من فعل وزارة العدل، قائلا انه كان منزعجا من ان يقبض على انسان بتهمة ثم يودع السجن تسعة اشهر على ذمة التحقيق، انها ـ كما قال الرئيس ـ فترة طويلة لحبس انسان بتهمة لم تثبت عليه في انتطار محاكمته.

ويلفت النظر في الشأن الاميركي طغيان الحديث عن حق المواطن في توفير امنه من ناحية، ومن ناحية اخرى حقه في ألا تضطهده قوة حتى لو كانت الحكومة بأثقالها، اي في الشكوى من اللص والشرطي معا. وعادة هناك خط رفيع بين ان تكثف ادوات الحماية وبين ان تمنع هذه الادوات من ان تتجاوز حدودها ضدك. وهذا ما يجعل القضاة في شك مستمر في ان بعض رجال الشرطة لا يتورعون عن الصاق التهم جزافا او انتقاما. لهذا وضعوا قوانين صارمة حيال كيفية التعامل مع الشهادات والادلة ومنعهم من الدخول بدون اذون قضائية وتنبيه المتهمين بألا يتحدثوا في غياب محاميهم. وتأتي قضية المتهم في المعمل الذري لتوضح كيف عامل القاضي دعاوى الحكومة بقسوة وتشهير بالغين.