انطفاء ضوء أخضر

TT

عاش حمد الجاسر 93 عاماً، وهي نسبة مرتفعة في الاعمار. لكنني كنت كلما قرأت شيئاً له، اخاله عاش مئات السنين، او انه مجموعة من العلماء والمفكرين والبحاثة. وكنت اقرأ اي شيء او اي كلمة ترد وعليها اسمه، محدثاً او مُوقَّعاً، مصححاً او معلقاً، شارحاً او معللاً. ولم أكن اصدق انه رجل واحد وان في امكان الكائن البشري ان يعثر على منهج حياتي يطوع فيه ساعات الليل والنهار، فيصرفها وكأنه جدول يصب في نهر، يغترف من نبعه ويرفد الى مصبه، يغترف بلا حساب ويصَّفي ويرقرق ويرسل الماء نقياً الى طالبي المعرفة.

وكان اجمل ما في حمد الجاسر طباعه: كرم العلامة وكرامة الفرسان. فلم يكن يترك خطأ معرفياً يمر من دون ان يهب الى تصحيحه. وكنت اتمتع بقراءة ردوده بقدر ما اتمتع بقراءة ابحاثه. فقد كان يقظاً على كل شيء، وكان بكل تواضعه وسعة معرفته وعظمة اجتهاده، يعتبر نفسه حارساً على الحقائق واميناً على مكتبة التاريخ العربي، فلا يترك لبحث الخطأ، ولا يكتب حرفاً من دون ان يشكله، وكأنما كل كلمة عقد مرصع وجب لحبَّاته ان تلمع وان تضيء.

صرفت في حياتي كثيراً مما جنيت، على الحبر والورق. وذات مرة بحثت عن كتاب له فلم اعثر عليه. وارسلت الى بيروت اطلبه فقيل انه غير موجود وفي النهاية عرضت علي نسخة (صفة جزيرة العرب) منه بأكثر من عشرين ضعفاً من ثمنها الأصلي. وبدل ان اتضايق شعرت بارتياح. اذ لم يكن من الممكن كتابة شيء عن الجزيرة من دون الرجوع الى مدققات وابحاث علامتها. وكان المرء مع حمد الجاسر يعرف شعوراً لا يعرفه في مراجعة سواه: الاطمئنان الى الصدق والثقة بحسن الطوية ورفعة المقاصد.

كان رمز الاجتهاد للاجتهاد. ومثل جميع عمالقة العلم، كان مذهل التواضع. وكان يخرج من عالمه واختصاصه وجزيرته كل يوم من اجل الابحار في كل المعارف الاخرى. ولم يطلب شيئاً آخر سوى العلم، لا في فقره ويتمه ولا في يسره المغمور لا الغامر. فلم تكن في حمد الجاسر علامة اخرى سوى علامة المعرفة ومعالم الاغتراف. وكنت تشعر ان لديه جواباً عل كل سؤال وتصحيحاً لكل تساؤل. وبسبب خلقه وطباعه وتكرسه، كان يعطي ما يكتب وما يقول صفة اليقين. ولم يكن ممكننا امام كل هذا الاجتهاد، ان يبقى للشك باب على ابواب حمد الجاسر.

حمل النفط الى السعودية ازدهاراً غبطها عليه العالم. وادى ذلك الى قيام ثروات تجارية بعضها خيالي. وحيكت قصص وحكايات كثيرة حول المدقعين الذين اصبحوا من اثرياء العالم. لكن ثمة ثروة اخرى وثرياً آخر ظل يبرز اسمه دوماً كعلم من اعلام الجزيرة. وفيما تراجع المجتهدون وتدنت صناعة العلم الحقيقي والبحث في العالم العربي، ظل علامة الجزيرة يعمل فيما العمر يفقده مقدرة هنا وطاقة هناك. ولكثرة ما عمل وما جدَّ وما اجتهد وما حقق ودقق وعلق وصحح وراجع وقدَّم ومهَّد وثابر ورعى، كان يخيل الى كثيرين مثلي انه جمع من الرجال ومجموعة من الاعمار وضوء في العقول.