عودة فريدة إلى فريدة

TT

ما الذي بقي من التجربة الشيوعية الفاشلة؟ انهار اقتصادها وغرقت حتى غواصاتها. فما الذي بقي؟ بقي منها في ازبكستان المرأة التي تغني المقام. التقيت بها قبل أشهر في الجمعية الآسيوية، في شخص «مناجاة»، المطربة الفاتنة. قلت لها المقامات عندنا يغنيها الرجال فقط. قالت كذا كنا في ازبكستان. ولكن ثورة اكتوبر أبت ان تترك الرجل يحتكر الفن لنفسه. فعلمونا فن المقام فتفوقنا فيه على الرجال.

المطربة فريدة من ثمار هذا الاتجاه. فكل ما جرى في العراق من تجديد وابداع يعود الى الحركة اليسارية التي اجتاحت البلد منذ الأربعينات. ولكنني ذهبت لسماعها مؤخراً متمسكاً بفكرتي القديمة بأن المقام لا يصلح لغير الرجال. ربما هو الشيء الوحيد الذي أؤمن بأن المرأة تصلح له. يعتقد آخرون انها لا تصلح للحكم او الحرب او القضاء او الملاكمة. معظم اصدقائي يعتقدون انها ايضاً لا تصلح للحياة معي. أما انا فاعتراضي محدود ومتواضع. أؤمن فقط بأنها لا تصلح لغناء المقام.

لهذا ذهبت لسماع فريدة قبل أشهر متعلقاً بكلمات الإمام الشافعي: رأيي صحيح ولكنه قابل للخطأ. لسوء الحظ خرجت من الحفلة دون ان أثبت لنفسي خطأي. تكررت المناسبة قبل أيام عندما حضرت الى لندن لتغني احتفالاً بالذكرى السبعينية للشاعر زاهد محمد زهدي. اعدت الكرة كأي واحد مؤمن برسالة العلماء: جرب ثم جرب حتى تثبت لنفسك خطأك. حضرت حفلتها في قاعة إيلنغ. ولم أقتنع بخطأي. بدأت أيأس من ذوقي، بل ومن حياتي.

في طريقي خارجاً من القاعة، وجدتهم يبيعون كاسيتات لمنتخبات من أغاني فريدة. أخرجت خمسة باوندات واشتريت واحداً. قلت لنفسي هذا اقل الايمان. جلست في غرفتي وحيداً ولعبت الكاسيت في اليوم التالي. بدأ الشريط الصغير بالدوران فاستمعت الى دجلة الخير، وعلى شواطئ دجلة، ثم مقام حويزاوي. وظل الشريط يدور، ومعه بدأت انفاسي تدور شيئاً فشيئاً حتى اذا وصلت به الى قصيدة: «بليت بقاسي القلب عذب مهجتي»، وجدت خدي يسبح في بحر من الدموع.

فريدة من الآلات الموسيقية الدقيقة والأعمال الفنية الفريدة. وكسائر هذه الأعمال يتطلب تذوقها توجهاً كاملاً بكل جوارحك ومشاعرك وأحاسيسك. هذا فن لم يخلق لأجواء الكباريهات وضجيج المجالس الاجتماعية. أدركت عندئذ لماذا خرجت من الحفلة قبل انتهائها. كانت مسبة جارحة ان استمع لهذا الصوت في مثل هذا الجو. الآن الكاسيت معي وسأحبس فيه صاحبة الصوت، وأستعبدها عبدة لعبد، تغني لي، ولوحدي، وكل نهاري، وكل ليلي.

ولكن فريدة لن تكون عبدة لي، فهي عبدة لصوتها القوي. والصوت القوي مثل الرصيد العالي. على صاحبه ان يحرص في استعماله. كنت اتصور حنجرتها محرومة من الطبقات الواطئة، فهي تميل للبقاء في الأوج، الى حد يتعبنا احياناً ويفقد الأغنية دراميتها، فالتباين مثل التناغم، سلاح ماض. هذا ما هزني في «بليت بقاسي القلب». فهنا كانت تنزل بصوتها الى القرار لتعبر عن يأس العاشق المعذب ثم تحلق من القرار في صرخة داوية بوجه المعشوق بكل ما أوتيت من صوت «لا تدعني اموت فيك اشتياقاً!» هذا التباين من أسرار قوة الدشت الفارسي والتلاوة المصرية والأوبرا الغربية.

وكل ذلك ونحن في تلك النعمة. لا شيء غير انين الجوزة. لقد خرست الطبلة، ويا ليتها خرست للأبد. فما من شيء اصبح يمزق روعة الغناء كقرع الطبول المستمر. أريد ان أنظم حملة ارهابية لاغتيال كل الطبالين العرب وغير العرب.