ثقافة عربية ترقص السامبا!

TT

هل أضحت المجتمعات العربية كبش فداء للدول الكبرى، تقدمها كأضحية تذبح بسكين باردة من أجل مصالحها الخاصة؟ هل حقيقة ما يُقال إن الأرض غدت مقسومة جزءين غير متعادلين.. جزء يقود، وجزء يُقاد؟ هل حقا تعيش المجتمعات العربية حالة انعدام وزن، وهل اعتادت الشعوب العربية على الخمول، واستساغت وضع الساق فوق الساق، ولبس الطربوش التركي الأحمر، وإمالته على جانب من رأسها بطريقة كوميدية، كما كان يتكرر هذا المشهد في الأفلام العربية القديمة، وغناء الناس في المقاهي «يا ليل يا عين»، نافضين جيوبهم من كل ما يحدث حولهم، رافعين شعار «وأنا ما لي»؟! لماذا باتت الأجيال الجديدة تتقبل على مضض موروثها التاريخي، ومهووسة بإيقاعات موسيقى الجاز، ومبهورة برقصة السامبا؟ للأسف، أصبحت الشعوب العربية تمشي مشية عرجاء، فلا طالت عنب اليمن ولا بلح الشام، حيث فشلت في الالتحاق بركب الحضارة الغربية وفي الوقت نفسه عجزت عن حماية هويتها الثقافية، وتقوقعت على نفسها، وشاخت قبل أوانها، رافضة أي نوع من أنواع التطور، أو تسليم نفسها لمباضع الجراحين لترميم عيوبها، وترقيع تشوهاتها، أو تقبّل أي محاولات جادة لإعادتها إلى طور الصبا من جديد، مؤمنة بأن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر! هل أصابت الأمة العربية إعاقة دائمة، بحيث لا ينفع معها التطبيب الشعبي؟! ما الأسباب التي أدت إلى هشاشة هويتنا الثقافية، ونحن أمة لها تاريخ مضيء؟ هل الاهتمام بالمصالح الوطنية، والانصراف عن القضايا القومية، ساهما في قطع جسر التواصل بين المثقفين العرب، وبالتالي أديا إلى تقلص أدوارهم بما يعود بالنفع على مجتمعاتهم؟ هل ساهمت حرب الخليج الثانية في زعزعة الثقة بين الشعوب العربية، وجعل الكل متحفزا، جافلا من أخيه، مما حلّ عروة تواصلهم؟ هل الثقافة كما يرى البعض من المثقفين كائن ينمو ويتطور، أم أنها عبارة مطاطية، تحمل الكثير من المدلولات الخفية؟ ماذا تعني الهوية الثقافية؟ هل هي التمسك بالموروث التاريخي، ورفض كل دخيل قادم، حتى لو كان نافعا لمستقبل الأجيال المقبلة؟ هل غدت الوحدة العربية في مرحلة الاحتضار، إن لم يكن قد تم حفظها في ثلاجة الموتى منذ أمد بعيد؟ يرى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، أن الوحدة العربية بمفهومها القديم الذي ينادي بدولة مركزية تتلاشى من خلالها كل الحدود، لا يمكن تحقيقها اليوم، فلكل قطر أهدافه الخاصة، ومشاكله المعلقة، وأن الحل في إحياء ثقافتنا كونها وحدها القادرة على إنشاء الوحدة التي نتطلع إليها.

لكن، كيف نخرج ثقافتنا من غرفة الانعاش، وتعود صحيحة البدن، خاصة في ظل مناخ العولمة الذي أصابها بنزلات برد متتابعة حتى فقدت مقاومتها، وأضحت هزيلة الجسد؟ كيف يمكن الاستفادة من إيجابيات العولمة دون المساس بهويتنا الثقافية؟ ما دور المجتمعات العربية في المحافظة على بصمتها الحضارية؟! هل تصم أذنيها، وتغمض عينيها، وتنادي برفض كل ما يتسرب من ثقب بابها، بحجة قمع مارد العولمة؟! هل تترك الحبل على الغارب كما ينادي بعض المثقفين، ورفع راية الاستسلام أمام تأثيراتها، مما يستلزم إزالة السدود والحواجز، وفتح المجتمعات العربية احضانها للعولمة، غير آبهة بتلاشي ملامحها العربية، وانطماس عروبتها، متعمدة السير مع الركب حتى لو كانت تعلم في قرارة نفسها، أن نهايتها السقوط المريع؟! هناك مثقفون واعون يجزمون أن خيوط اللعبة ما زالت معلقة بأناملنا، بتجديد خلايا الثقافة من خلال تجديد قضاياها الاجتماعية، التي تتطلع لإرساء دعائم الحق والعدل والحرية. فالمفكر العربي محمد عابد الجابري يؤكد على وجوب بناء ثقافتنا من جديد، وأن أي ثقافة لا يتم بناؤها إلا من داخلها، بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل، بتحديث أنظمتها التعليمية، وتسخير التقنيات العلمية الحديثة، والاستفادة من معطياتها للحفاظ على الخصوصية التاريخية، التي تُشكّل المعبر الأصيل لها. ويرى كذلك أنه لا توجد ثقافة عالمية واحدة، وأن التعدد الثقافي في العالم العربي واقعة أساسية لا يجوز القفز عليها، بل من الممكن توظيفها بوعي لإخصاب الثقافة القومية، وتسخير اللغة العربية بقوة، للجمع بين الشعوب العربية كونها الرابطة المتينة التي تقوي أنسجة الوحدة العربية.

هل تستطيع الهوية الثقافية الصمود طويلاً أمام العولمة، التي يقوم منهجها على إذابة الحدود، وتداخل الثقافات، واخضاع الدول الضعيفة، لمطالب الدول الكبرى، خاصة في ظل ثورة الاتصالات التي كشفت الكثير من الخبايا ودفعتها إلى السطح؟! هل من الممكن محاربتها، وبالتالي تفعل المجتمعات العربية، كما فعل الدب بصاحبه حين أراد الدفاع عنه فقتله؟! كيف يمكن أن تغربل الثمين من الغث بدون أن تفقد توازنها الفكري والحضاري؟! المشكلة أن توفر شبكات الاتصالات بأنواعها المتباينة، واستغلال الدول المتقدمة قوتها الإعلامية، المتفوقة على قدرات الدول النامية، وسيطرتها على مصادر الأنباء بما يخدم أطماعها، كل ذلك ساهم في تحطيم الثقافات الأصلية للشعوب. وهناك القنوات المتلفزة التي تقوم بوظيفة خطيرة، خاصة في بلورة الكثير من المفاهيم لدى المشاهد العربي، وتغيير العديد من موروثاته الاجتماعية التي شبّ عليها، بل هي أفرزت أنماطا جديدة من السلوكيات الدخيلة على المجتمعات العربية، وانتشرت ظواهر شاذة بين الأجيال الصاعدة، مما يستلزم تحركاً سريعاً، بوجوب التحصّن بدروع المعرفة لمواجهة قوة العولمة المزدوجة الشخصية! ويرى الخبراء أن مواجهة الهيمنة الغربية على الإعلام، تتم بأن تجتهد الدول العربية جميعها لتطوير إمكانياتها الاقتصادية، والتكنولوجية، والعلمية، ومن خلال المواقف السياسية المعبرة عن تطلعات شعوبها وأمانيها، في ظل الحريات حتى تلحق بركب التقدم، وأن تشجع على إنشاء وسائل إعلامية مهمتها مخاطبة الرأي العام، وإبراز الحقائق ناصعة أمامه، حتى تنشأ على المدى البعيد أجيال قوية الشخصية، مالكة زمام قراراتها بحكمة ووعي.

لا بد أن تكون هناك غيرة فطرية على اصالتنا وعلى هويتنا. وها هي أوروبا تقف بشراسة أمام اكتساح الأمركة لعالمها، وتسعى جاهدة لوضع سياج متين يحمي جذورها. اما والأمة العربية فما زالت تترحم على القائد صلاح الدين الأيوبي، وتفتخر بفتوحاته، وتتحسر على ضياع الأندلس منها، وتبكي أمجادها الغابرة، دون أن تأخذ بأسباب انحدارها، أو علّة فشلها، وما زالت إلى اليوم تنظر إلى النهايات كوقائع مسلّم بها، ونقلت نواحها وبكاءها إلى فنونها، وباتت الأغاني يعلوها الأنين، والبرامج تتخللها التشنجات، والآداب زاخرة بالأحلام الموءودة، واللوحات توحي بالكآبة، حتى أصبح الانكسار والخنوع سمة بارزة في الشخصية العربية.

[email protected]